الانفصام الدعوي (2 /5).. مع النفس

قواعد الشجاعة والسماحة عند ابن تيمية

إن سير العلماء ما تزال منبعًا ثرًا ومنهلًا عذبًا يرتاده العطشى، فيرتوي منه ظمؤهم وتشفى غلتهم، وإنك لتجد في سيرهم أحوالًا عظيمة، جعلت من أولئك العظماء قدوات ونماذج في العلم، والعمل، والدعوة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدفاع عن الإسلام وجهاد أعدائه.

وإن النظر في سير أولئك العظماء لاستجلاء الخصال الحميدة التي تحَلَّوا بها، وإبرازها: أمر يجدر بالدعاة اليوم الانتباه إليه، لا الالتفات عنه، لتكون تلك الخصال مما يربون عليه أنفسهم والناس، ليتمكنوا من القيام بمهمة الدعوة إلى الله تعالى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي أمرهم الله تعالى بها.

وفي مقالتنا هذه نستعرض خصلتين من تلكم الخصال، هما الشجاعة والسماحة، وذلك بالنظر في سيرة أحد أولئك العظماء، وهو شيخ الإسلام أبو العباس تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية الحراني الدمشقي، المتوفى سنة 728هـ، رحمه الله تعالى.

حديث ابن تيمية عن أهمية السماحة والشجاعة:

تحدث ابن تيمية في مواطن كثيرة عن أهمية الشجاعة والسماحة، ومن أهم تلك المواطن ما كتبه في كتاب (الاستقامة)، وطبع ذلك الفصل أيضًا مفردًا بتحقيق صلاح المنجد بعنوان (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، كما ضمنه الشيخ ابن قاسم رحمه الله تعالى المجلدَ الثامن والعشرين من (مجموع الفتاوى).

ونستطيع أن نستخرج من كلام ابن تيمية في هذا الموضع عدة قواعد تتعلق بصفتي السماحة والشجاعة:

القاعدة الأولى: السماحة والشجاعة يحتاج إليها جميع بنو آدم:

يقرر ابن تيمية أن (الحاجة إلى السماحة والصبر عامة لجميع بني آدم، لا تقوم مصلحة دينهم ولا دنياهم إلا به، ولهذا جميعهم يتمادحون بالشجاعة والكرم، حتى إن ذلك عامة ما يمدح به الشعراء في شعرهم، وكذلك يتذامون بالبخل والجبن). ويبني ابن تيمية على ذلك نتيجة، وهي أن مدح الشجاعة والسماحة حق لا مرية فيه، فإن (القضايا التي يتفق عليها بنو آدم لا تكون إلا حقًا).

القاعدة الثانية: السماحة والشجاعة إنما تمدح إذا كانت في سبيل الله تعالى:

فقد جاء (الكتاب والسنة بذم البخل والجبن، ومدح الشجاعة والسماحة في سبيل الله تعالى دون ما ليس في سبيله)، كما في قوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ للهِ} (الأنفال: 39)، وجاء عن أبي موسى رضي الله عنه قال: (قيل: يا رسول الله! الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل رياء فأي ذلك في سبيل الله؟ فقال : من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله). أخرجه البخاري.

ووجه ذلك أن العبادة هي (المقصود الذي خلق الخلق له) كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات: 56)؛ فكل ما كان لأجل الغاية التي خلق لها الخلق كان محمودًا عند الله، وهو الذي يبقى لصاحبه، وهذه الأعمال الصالحات، فالكافر والمنافق قد يقع منهما شيء من ذلك، غير أنه إذا لم يكن غايته ومقصده هو الله تعالى فلا فائدة لعمله، وأولئك تكون لهم (عاجلة لا عاقبة) – كما يقول ابن تيمية –  فإن العاقبة إنما تكون للمتقين.

فالناس في هذا بحسب علاقة السماحة والشجاعة بأعمالهم – بحسب ابن تيمية – أربعة أصناف:

1- من يعمل لله بشجاعة وسماحة، فهؤلاء هم المؤمنون المستحقون للجنة .

2- ومن يعمل لغير الله بشجاعة وسماحة، فهذا ينتفع بذلك في الدنيا، وليس له في الآخرة من خلاق .

3- ومن يعمل لله لكن لا بشجاعة، ولا سماحة، فهذا فيه من النفاق ونقص الإيمان بقدر ذلك .

4- ومن لا يعمل لله وليس فيه شجاعة ولا سماحة، فهذا ليس له دنيا ولا آخرة.

القاعدة الثالثة: من فقد الشجاعة والسماحة تجري عليه سنة الاستبدال:

فقد ذكر ابن تيمية أنواعًا من الدلالات من الكتاب والسنة على مدح الشجاعة والسماحة إذا كانت في سبيل الله تعالى، ومنها: (أن ما في القرآن من الحض على الجهاد، والترغيب فيه، وذم الناكلين عنه والتاركين له : كله ذم للجبن، ولما كان صلاح بني آدم لا يتم في دينهم ودنياهم إلا بالشجاعة والكرم، بين سبحانه أن من تولى عن الجهاد بنفسه أبدل الله به من يقوم بذلك)، وهذا يدلك على أن فقدان الشجاعة والسماحة سبب للنكوص عن القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن نكص عن ذلك جرت عليه سنة الاستبدال، واستبدل الله به قوما آخرين.

القاعدة الرابعة: الشجاعة قوة القلب لا قوة البدن:

وفي هذا يقرر الشيخ أن (الشجاعة ليست هي قوة البدن، وقد يكون الرجل قوي البدن ضعيف القلب، وإنما هي قوة القلب وثباته، فإن القتال مداره على قوة البدن وصنعته للقتال، وعلى قوة القلب وخبرته به، والمحمود منهما ما كان بعلم ومعرفة، دون التهور الذي لا يفكر صاحبه ولا يميز بين المحمود والمذموم، ولهذا كان القوي الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب، حتى يفعل ما يصلح، فأما المغلوب حين غضبه فليس بشجاع ولا شديد). فالشجاعة (ثباتُ القلب وقوَّتُه، وقوة الإقدام على العدو، والبعد عن الجزع والخوف) وهي صفة تتعلق بالقلب لا بالبدن (وإلا فالرجل قد يكون بدنه أقوى الأبدان، وهو من أقدر الناس على الضرب والطعن والرمي، وهو ضعيف القلب جبان، وهذا عاجز، وقد يكون الرجل يقتل بيده خلقًا كثيرًا، وإذا دهمته الأمور الكبار مالت عليه الأعداء، فيضعف عنهم أو يخاف).

ويقرر ابن تيمية أن ثبات القلب إنما يكون بالتحلي بالصبر، ويذكر هنا قول الحسن البصري: (ما تجرع عبد جرعة أعظم من جرعة حلم عند الغضب، وجرعة صبر عند المصيبة). ثم يعقب بقوله : (وذلك لأن أصل ذلك هو الصبر على المؤلم، وهذا هو الشجاع الشديد الذي يصبر على المؤلم، والمؤلم إن كان مما يمكن دفعه أثار الغضب وإن كان مما لا يمكن دفعه أثار الحزن).

ولنعطف على ذكر هذه القواعد، مواقف عملية من سيرة ابن تيمية، يكون فيها تصديق القول بالفعل، والنظرية بالتطبيق.

* بتصرف من المستودع الدعوي الرقمي.

 

مواضيع ذات صلة