الانفصام الدعوي (2 /5).. مع النفس

قيادي إسلامي بأوكرانيا: نؤسس مناهج تربوية ضد الذوبان والعزلة

أدار الحوار: هاني صلاح ـ محمد سرحان

“الاهتمام بعملية تربية النشء هي الحل الأنجع لمشكلة الاندماج في الغرب؛ فعلينا اليوم نحن الدعاة العاملين في تربية النشء أن نعمل على تأسيس مناهج تربوية، فيها من الإبداع ما ينجينا من الذوبان ولا يوقعنا في العزلة”..

أكد أن أولادنا بحاجة إلى تربية نورانية توازن العقلانية الغربية

بهذه الرؤية، أكد الداعية م.طارق سرحان، رئيس قسم الدعوة والتعريف بالإسلام والثقافة الشرقية، التابع لاتحاد المنظمات الاجتماعية في أوكرانيا “الرائد”، أن الحل العملي الأنجح للتغلب على التحديات التي تواجه الهوية الإسلامية لأبناء مسلمي الغرب هي تربيتهم وفق مناهج تربوية تدعم اندماجهم في المجتمع دون الذوبان وفي ذات الوقت تقيهم خطر الانعزال.

وحول رؤيته لمناهج التربية المناسبة لأبناء مسلمي الغرب، أوضح الداعية (م.سرحان)، أنه: “لا بد أن نربي النشء في الغرب “تربية نورانية” تتناسب مع العقلانية الغربية.. “حضارية” تتناسب مع الحركة العمرانية في الغرب.. “ثقافية” تتناسب مع تطور الفنون في الغرب.. وكل هذا مع ما يتناسب مع “التربية الروحية”؛ فيصبح المسلم يعيش لحياته كأنما سيعيش أبداً، ويعيش لخالقه كأنما سيقف بين يديه غداً”.

جاء ذلك في سياق حوار: (الجيل الثاني وتحديات الهوية)، وهو الحوار الأول الذي تجريه (المجتمع) بالتعاون مع (مبادرة: حوارات الأقليات المسلمة)، والتي يديرها كل من الصحفيين “محمد سرحان” و”هاني صلاح” على موقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك”، وتهدف إلى التعريف بواقع الأقليات المسلمة حول العالم، وتلقي الضوء على أبرز التحديات التي تواجههم.

وإلى الحوار..

المشاركة الأولى.. من: “فريق إدارة الحوار”، وتشتمل على سؤالين (1، 2):

1 ـ المحور الأول : تجربة الضيف الدعوية:

أ- لو تستعرض لنا في إطلالة سريعة تجربتكم الدعوية في أوكرانيا وكيف استفدتم من محطات هذه التجربة وخطواتكم لتطوير العمل الدعوي بما يتناسب مع الواقع؟

منذ بداية عملي في مجال الدعوة، ارتكبت خطأ، أعتقد أنه كثيراً ما يتكرر من قبل العاملين في هذا المجال، خاصة في المراحل المبكرة من عملية النضوج العلمي والفكري والدراية في مجال الدعوة وفنونها، ألا وهو أني اعتبرت أن الدعوة هي دعوة غير المسلم حتى لحظة نطقه للشهادة، ولكن مع الوقت أدركت أن هناك مسؤولية تحتم علي أن أتابع العملية الدعوية لما بعد الشهادة حتى الثبات والاستقامة على هذا الدين، ولكن حتى عندما كنت في خضم هذا العمل الهام، كنت غفلت عن أن دعوة المسلمين وإن كانوا ولدوا مسلمين فإنها لا تقل أهمية عن دعوة غير المسلم بل وقد تزيد.

بعد ذلك أخذت أجتهد قدر استطاعتي في العمل على نشر المفاهيم الإسلامية بما يتطابق مع الكتاب والسنة دونما تضارب مع الواقع والمجتمع، وتغير بعض المفاهيم الخاطئة عند بني الإسلام في المجتمع الأوكراني، حيث تعددت المفاهيم والمواقف بحسب تعدد المصادر التي يستخدمها المسلم في أوكرانيا لتعميق ارتباطه بدينه وعقيدته ومن ثم نشر مفاهيمه المختلفة أو المتضاربة في بعض الأحيان، وبالطبع كانت الفئة المستهدفة هي الفئة العمرية من عشرين سنة وما يزيد، ظناً مني أنها الفئة الفعالة في المجتمع، والأكثر قدرة على تمثيل الإسلام تمثيلاً مشرفاً.

ب- لكن واقعيا أيهما أولى وأكثر إلحاحا مع أهمية كل منهما طبعا .. العمل الدعوي للشباب أم الأطفال والمراهقين من الأجيال الجديدة للمسلمين وأهمية تنشئتهم إسلاميا وتربويا؟

في الحقيقة بعد سنوات من العمل الدعوي، ها أنا أتصادم مع واقع جديد يحتم علي تغيراً جديداً في فهمي للدعوة بحسب المعطيات الجديدة.

ففي الآونة الأخيرة نمى عدد السكان المسلمين في أوكرنيا من فئة الجيل الثاني (الأطفال والمراهقين دون سن الشباب) بشكل ملحوظ وغير معهود، ما يجعل العمل الدعوي بشكله التربوي هو الأهم في هذه المرحلة، ولا أعني هنا العمل التربوي الديني البحت، بل أعني التربية المتكاملة التي تصقل من النشأ شخصية إسلامية متكاملة تصلح لأن تكون حجر أساس لمجتمع عصري ناجح، وممثل مشرف لهذا الدين متجانس مع تطورات عصره.

ج- ما هي التحديات التي واجهتكم في عملكم الدعوي وكيف تغلبتم عليها؟

هناك نقطة هامة في حال المسلمين الجدد في أوكرانيا مرتبطة بالدعوة الإسلامية ككل، هذه الظاهرة تكمن في أن المسلمين الجدد يعتنقون الإسلام اعتماداً على مصادر مختلفة وربما متناقضة في بعض الأحيان، ما أدى إلى تكوين تصورات متعددة عن التدين في هذا الوسط، بحسب تعدد الوسائل المستخدمة في التعرف على الإسلام من البداية، وفقدان وحدة فكرية أو تربوية.

وللتغلب على هذا التحدي، اتبعنا في تربية ما لدينا من أعداد كبيرة من أبناء المسلمين الجدد أو الجالية المسلمة ككل، مقاييس تربوية وعلمية محددة وموحدة، ما يساهم في خلق وحدة ثقافية قادرة على تخطي تحديات الحاضر والمستقبل.

2 ـ المحور الثاني: التعريف بضيف الحوار

نرجو التعريف بكم لجمهورنا قبل البدء في الحوار، من خلال:

أ ـ تعريف إنساني واجتماعي ووظيفي ودعوي..

طارق سرحان، فلسطيني الأصل حامل للجنسية الأردنية، مواليد 75 في أبو ظبي، مقيم في أوكرانيا منذ 95، حامل لشهادة هندسة في الإلكترونيات وبكالوريوس في علم الاجتماع..

ب ـ ما هي أهم المهام التي تقومون بها حالياً؟

أعمل بالدعوة منذ 2003، في المركز الإسلامي في مدينة كييف العاصمة الأوكرانية، وهو أحد مراكز اتحاد المنظمات الاجتماعية في أوكرانيا “الرائد”..

ج ـ وما هي أبرز المسئوليات التي قمتم بها سابقاً؟

عملت في قسم الدعوة والتعريف بالإسلام والثقافة الشرقية، الذي أترأسه حالياً، وعملت في الدعوة الفردية والوعظ، ولدي العديد من المواعظ والمحاضرات باللغة الروسية على اليوتيوب ومواقع التواصل الاجتماعية، كما ألقيت العديد من المحاضرات في مختلف الجامعات الأوكرانية، والمؤسسات الاجتماعية…

ندعو إلى فهم الإسلام فهماً معتدلاً على نهج وسطي، يتطابق مع نصوصه الشرعية دونما تضارب مع فهم الواقع واحتياجاته..

المشاركة الثانية.. من: ميرفت الكلاس، روسيا، وتتضمن سؤالا واحدا (رقم: 3):

3 ـ أنا من سورية وابنتي تعرف كتب وتقرأ عربي صف ثالث تعليمي أنا بالبيت وباللغة الروسية صف ثاني نظامي بمدارس روسيا… لكن تلاوتنا فيها أخطاء تجويد وما فيه مصحح وما فيه حولنا من يشد بأيدنا لنستمر بسرعة وإتقان وخائفة بالأخير بنتي تبعد عن الدين بتأثير صديقاتها بالمدرسة.

لذا سؤالي من شقين:

أ ـ تعلم القرآن بالغربة صعب بسبب قلة عدد المدرسين والمدارس الإسلامية بعيدة وقليلة.. فكيف نتقن القراءة والحفظ؟

ب ـ ممكن رابط لموقع تصحيح تلاوة بالنت مباشر؟

بسم الله والصلاة والسلام على رسوله الكريم…

أهــلاً وسـهـلاً بك أختي الكريمة!

أعتقد أن السؤال له أكثر من جانب، تكلمت عن القرآن بداية وعن حفظه، والتجويد مخارج الحروف، وأنا وبكل أسف لست أفضل من يتكلم عن القرآن ووسائل تعليمه وتعلمه، ولكني أعرض عليك النصائح التالية:

  • يقول تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ…} [القمر : 17]

فواجباتنا أمام القرآن عديدة: – الإيمان به – قراءته – ترتيله- فهمه – التدبر فيه – حفظه – العمل به – نشره والدعوة له…

وكلها واجبات يجب ألا يهجر منها شيء، ولكن هذا يكون حسب الوسائل التي يسرها الله تعالى لعبده ويسأل أحد على ما لا يطيق!! {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]

لذلك أختي الكريمة عليك بما تطيقين مما يسر الله لك، خاصة إذا انعدمت لديك بعض الوسائل، ولا تحملي نفسك أكثر مما تطيقين واجعلي توكلك على الله تعالى…

  • أكثري أختي الكريمة من سماع القرآن وشغيله لبناتك في الصباح وفي المساء عند وضع الأطفال في السرير، فهذا يساعد على تنمية ملكة قراءة القرآن خاصة عند الأطفال، ولي قصة مع أسرة مسلمة لا تعرف اللغة العربية، إلا أن العادة جرت عندهم على تشغيل سورة البقرة في غرفة النوم بعد أن يخلدوا إلى سرير النوم، ما أدى إلى أن الأطفال حفظوا جزء كبير من سورة البقرة سماعاً. فلا شك في أن سماع القرآن وسور محددة لمرات عديدة ينمي ملكة الحفظ ويسهلها…
  • أما بالنسبة للمواقع، فعليك بدروس الشيخ أيمن سويد على اليوتيوب…
  • نوهت في سؤالك عن خوفك على بنتك وتأثرها بصديقاتها، وهنا أحب أن أنوه إلى أننا حتى لو كنا نعيش في بلد مسلم، فليس هناك بديل لصداقة الآباء مع الأبناء، فما بالك إذا كنت تعيشين في المجتمع الروسي؟!! يجب أن ترقى العلاقة بين الأم وابنتها حتى تصبح علاقة بعيدة كل البعد عن علاقة الحاكم بالمحكوم والآمر الناهي بالمؤمر عليه المغلوب على أمره، حتى تتحول إلى ثقة وتعاون مع شيء من الحرية والمشاورة واتخاذ القرارات مع بعضنا البعض، وعدم الإكثار من النهي عن المباحات بحجة الحرص (خاصة في مجتمع متحرر قد يظن فيه الطفل أنه حجر عليه مقارنة مع الآخرين).

ولك في قصة سيدنا نوح عليه السلام عبرة، عندما قال تعالى:

{قَالَ سَآوِي إِلَىٰ جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ ۚ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَن رَّحِمَ ۚ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ} [هود : 43]

ففي هذه الآية يُبين لنا الله تعالى العزلة والمسافة التي اتخذها  ابن سيدنا نوح عليه السلام بينه وبين أبيه، وكذلك الفتن التي يقع بها أبناؤنا هي كالموج تماماً الذي يحول بيننا وبين أولادنا خاصة في الأعمار الحرجة، التي يسهل فيها على الطفل الخروج عن طوع والديه، خاصة في دول الغرب، لذلك لا بد لكلا الوالدين أن يكون لديهم المهارات التربوية الكافية، لتقريب المسافات بينهم وبين أبنائهم حتى تصبح علاقة صداقة، مبنية على شيء من المساواة والحرية والثقة…

 المشاركة الثالثة.. من: ويدراوغو سالفوـ باحث دكتوراه ـ أستاذ في جامعة الهدى في بوركينافاسو، وتتضمن سؤالا واحدا (رقم: 4):

4 ـ السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

أليست المشكلة ناشئة عن منهجية الدعوة التي لا تعطي صورة حقيقية عن الإسلام وتخضع لأوامر سياسية؟ أم قد يكون القصور في قدرة الدعاة علي توفير التعليم الشامل لهذا الجيل الثاني؟

وجزاكم الله خيرا على هذا البرنامج الذي يستجيب لمتطلبات الوقت..

بسم الله والصلاة والسلام على رسوله الكريم…

حياكم الله أخي الحبيب!

لا يخفى على علمكم أن التعددية هي سنة من سنن الكون التي لن تتبدل كما وعد الله تعالى بهذا:

{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ۖ وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} [هود : 118]

وأعتقد أن التعددية (حرية الفكر أو الاعتقاد) هي أحد الأسس التربوية التي يجب أن نزرعها في الأجيال القادمة، حتى لا نجني ثمار أعمالنا نزاعات وتمزق وشرذمة في ما بيننا…

{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ۖ وَاصْبِرُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال : 46]

وفي كثير من حالات الاختلاف التي نقع فيها تجد أن الطرف الآخر، الذي تختلف معه، هو الممثل الرسمي للدولة، والذي يكون قد أحكم قبضته على زمام الأمور بما فيها المناهج التعليمية، وهذا واقع مفروض علينا في الكثير من دولنا الإسلامية أو العربية، وأعتقد أن هذا الواقع أدا إلى أن كثير من الدعاة فضلوا التنحي عن العملية التربوية، منتظرين أو مطالبين بالإصلاحات الشاملة، ما أدا إلى نزاعات عرقلت العملية التربوية ككل لعشرات السنين…

بينما استطعنا بالغرب أن نتعامل مع التنوع في العقائد والتعددية في الفكر، الإفراط بالحريات، حتى استطعنا أن نكون عمل مكملاً لنظام التربية والتعليم، يتمم لنا ما نحتاج من تربية لأولادنا تربية تتجانس مع دينهم، ولكن دونما عزلة أو نزاعات مع المحيط الاجتماعي من حولنا وذلك عن طريق ما يلي:

– التوجه بطلبات رسمية للمدارس المحلية، لأخذ بعين الاعتبار الخواص الدينية لأولاد الجالية المسلمة (ملبس أو مأكل أو تعليم)، عملاً بالدستور الذي يضمن حرية الدين والاعتقاد، ويكون هذا بالتنسيق مباشرة بين أولياء الأمور وإدارة المدرسة أو المدرسين.

– إنشاء دروس أسبوعية ومخيمات دورية لأبناء الجالية المسلمة في جميع المراكز الإسلامية، التي تقوم بمراقبة النشأ وتوجيههم، وإدماجهم في برامج تربوية أو نشاطات ترفيهية في أجواء تحفظ لهم هويتهم.

– دورات لتنمية الفنون التربوية لدى الآباء والأمهات لحفظ الأبناء من الذوبان في المجتمع الغربي أو الانعزال عنه!

– وأخيراً افتتاح مدارس خاصة نموذجية لأبناء الجالية، يدرسون فيها بحسب المناهج المحلية وباللغة الرسمية، بجانب  التركيز على مواد تعليم الثقافة الإسلامية والتربية الدينية.

أعتقد جازماً أن هذه الخبرة التي اكتسبناها في الغرب غدت تجربة نموذجية صالحة للتطبيق في بلادنا العربية والإسلامية، لتخطي حاجز النزاعات، والمضي بالعملية التربوية..

المشاركة الرابعة.. من: زكريا يونس – إمام مسجد السلام في العاصمة بانجي وناشط في المصالحة الوطنية – إفريقيا الوسطى، وتتضمن سؤالا واحدا (رقم: 5):

5 ـ مسألة الاندماج كلمة مطاطة يستعملها الغرب وهي كلمة حق أريد بها باطل! الغرب يقول باندماج الأقليات وغالباً ما يقصد الأقليات المسلمة ويريد أن تذوب وتتحلل في ايدلوجيا الغرب وثقافته ! ولكن عندما تحافظ بعض الأقليات المسلمة على مبادئها وثوابتها الإسلامية تتهم بانها متطرفة !

والسؤال: كيف يمكن للأقلية المسلمة أن تحافظ على مبادئها وثوابتها الإسلامية مع الاندماج !

أخي الحبيب، إن الاندماج الذي نعنيه، هو الاندماج الذي عرفه المسلمون الأوائل، ولك في قصة الهجرة إلى الحبشة العبر، كان ذلك الاندماج قائماً على قيمة العدل التي وحدت بين نصارى الحبشة والمسلمين المهاجرين من مكة، ويتبن هذا في قوله صلى الله عليه وسلم: «إن بأرض الحبشة ملكاً لا يظلم أحد عنده»، ولكن هذا الاندماج لم يمنعهم من الحفاظ على عقيدتهم، ولم يمنعهم من أن يكونوا فاعلين في مجتمعهم الجديد.

وها هو التاريخ يعيد نفسه، فكثيراً ما يهاجر المسلم من بلده بحثاً عن العدل والحرية والمساواة، كقيم هي إسلامية، ولكنها غدت جزء من واقع الحياة في الغرب دون غيرها من الدول، ولا بأس أن توحدنا معهم هذه القيم التي هي إسلامية بحتة. وأعتقد أن قضيتنا في هذه المقالة، ألا وهي قضية تربية النشأ، هي الحل الأنجع لمشكلة الاندماج، وللاندماج طبعاً طرف آخر للمشكلة دون الذوبان لم تذكره أخي الحبيب، ألا وهو الانعزال. فعلينا اليوم ونحن الدعاة العاملين في تربية النشأ، أن نعمل على تأسيس مناهج تربوية، فيها من الإبداع ما ينجينا من الذوبان ولا يوقعنا في العزلة، نحتاج لمناهج منافسة لوسائل العولمة الغربية، حتى نحقق بها مبدأ العالمية الإسلامية، العالمية التي لا تتصادم مع مكان أو زمان، بهذا يصبح المسلم في أوروبا فرداً متجانساً مع مجتمعه، لا يزيده إلا توازناً، ويغدو ركيزة للحضارة وصماماً للأمان، عوضاً، عن أن يكون عضواً شاذاً يتربص به المتربصون ليستأصلوه…

ولا بد هنا من أن نذكر أنه من المهم، أن نربي النشء في الغرب تربية نورانية تتناسب مع العقلانية الغربية، حضارية تتناسب مع الحركة العمرانية في الغرب، وثقافية تتناسب مع تطور الفنون في الغرب، وكل هذا مع ما يتناسب مع التربية الروحية، فيصبح المسلم يعيش لحياته كأنما سيعيش أبداً، ويعيش لخالقه كأنما سيقف بين يديه غداً…

المشاركة الخامسة.. من: محمد سرحان – صحفي متخصص في شؤون الأقليات المسلمة، وتتضمن أربعة أسئلة (أرقام: 6/7/8/9):

6 ـ ذكرتم أنكم اتبعتم مقاييس علمية محددة في تربية ورعاية الأجيال الجديدة.. لو تحدثنا بالتفصيل عن هذه المقاييس وكيف كانت نتائجها في رعاية النشء؟

بوركت أخي الحبيب على هذا السؤال.. لقد قام اتحاد المنظمات الاجتماعية في أوكرانيا «الرائد»، بافتتاح مدرسة نموذجية خاصة للتعليم وتربية النشاء من أبناء الجالية المسلمة أو حتى من أبناء المواطنين المحلين دون تفرقة، بعد أن سجلت وصممت بحسب مقايس الدولة، وبحسب مواصفات عالية حددت من قبل المتخصصين، مثل تجهيز القاعات بأحدث وسائل العرض، واستخدام التعليم بالحاسوب، وتجهيز مختبر للتجارب، والاعتماد على المناهج المعتمدة من الدولة، والمدرسين المحلين والمتخصصين دون اشتراط أن يكونوا مسلمين مع مراعاة الجدارة، ما عدا دروس الثقافة الإسلامية.

كذلك إضافة ساعة تعليم إضافية في الأسبوع لتعليم الثقافة الإسلامية. ودروس التقوية الإلزامية، والتي تراعي الفرق في مستوى الطلاب خاصة في مادة اللغة العربية، كما ونشجع طلاب المدرسة على البحث العلمي عن طريق إلقاء المحاضرات في الندوات التي تنظم بين الأطفال، أو حتى إلقاء الدروس على الصفوف الابتدائية، هذا عدى عن البرامج الترفيهية والمسابقات المستمرة…إلخ

وبعد كل هذا نقوم بإنشاء نشاطات فيها يكون الطابع الإسلامي أقوى من غيره ولكن خارج الصرح التعليمي، مثل مسابقات حفظ القرآن، والدورات، والمخيمات…إلخ

نسعى في هذه الوسائل إلى أن نصل بالطفل إلى المستوى التعليمي الذي يجعله قادراً على تحصيل أعلى الدرجات في مرحلة التعليم العليا وسقل شخصية متوازنة قادرة على التعامل مع المجتمع تعامل صحيحاً.

7 ـ تربية الأبناء من أكبر المشكلات التي تواجه الأسرة المسلمة في الغرب لا سيما أن عوامل الذوبان في المجتمع كبيرة .. برأيك ما هو الدور المفترض للمراكز الإسلامية في هذه القضية؟

كنت قد جاوبت على هذا السؤال في ما سبق أعلاه، لكن أعود وأكرر، ليس الذوبان وحده الذي يعاني منه الشباب المسلم في الغرب، بل هم بين هاويتين، هاوية الذوبان أو هاوية الانعزال، وهدفنا هو صقل شخصية تنعزل عن ما يتناقض مع الدين وتذوب مع ما فيه مصلحة للناس أجمعين، ففي السابق كانت المشكلة هو انعدام دور الأسرة بالمقارنة مع التأثير القوي للمجتمع بداية من المدرسة ثم الأصدقاء، وهكذا. لذلك فإن دورنا كدعاة هو إيجاد البدائل التربوية والمحيط الاجتماعي الملائم الذي يزيد من تمسك النشء بجذوره، يعينه على اختيار أصدقائه، وفي نفس الوقت يوجهه لفهم واقعه والتعامل معه تعامل سليماً…

8 ـ الكثير من الأقليات والمهاجرين المسلمين في دول عديدة، يعانون في تربية أبنائهم وسط مجتمعات غير إسلامية ومنهم من يضطر إلى العودة إلى الوطن الأم .. فبم تنصحونهم؟

أعتقد أن في كثير من الأحيان (ولي في هذا بعض التجربة) أن العودة إلى البلد الأم قد يشكل نوعا من الصدمة لطفل، خاصة عند اصطدامه بالمناهج الجديدة والمجتمع الجديد واللغة الجديدة داخل المدرسة، ما قد يؤدي إلى انحدار في مستواه التعليمي، وربما شرخ في شخصيته بسبب رفضه للمجتمع الجديد (الذي يفترض أن يكون قريباً ولكنه غريب في الوقت نفسه بل ربما غير مرغوب)، لذلك يجب أن يكون هناك بعض الأمور التي يجب مراعاتها:

– الأطفال يعانون من انتقال السكن من شارع إلى شارع آخر، لما يترتب من تغير الأصدقاء المقربين وغير ذلك، فكيف إذا انتقل مكان السكن إلى دولة أخرى؟!! فهذا قد يؤدي إلى صدمة وعلى الأب والأم إدراك ذلك والحرص على تقوية العلاقة مع أبنائهم!

– تحسبًا لهذا لا بد أن يعمل الآباء على زرع رابط قوي بين الأبناء وجذورهم الأصلية من أوطان أو أقارب، وذلك عن طريق التواصل المستمر والزيارات السنوية، وتعليم الأبناء للغتهم الأم والتحدث بها بطلاقة، وزع مفهوم حب الأوطان والأرحام في قلوب الأبناء، خصوصاً إذا كانت جنسية الأب وجنسية الأم مختلفتين!!

9 ـ كيف يمكن تحقيق الاندماج المعتدل للأبناء في المجتمع غير المسلم يعني لا هو الاندماج المفرط ولا العزلة أي الاندماج القائم على التعايش والإسهام في خير المجتمع مع الحفاظ على هويتهم الإسلامية كيف يمكن تحقيق هذه المعضلة الصعبة؟

– بداية لا بد أن يكون هناك ما يميز الطفل تميزاً واضحاً له ولغيره من يحيطون به:

  • اسمه الإسلامي المميز، فلا يجوز تسمية الطفل أو مناداته بأسماء لا تجعله يميز نفسه عن الآخر…
  • تقوية الرابط القومي وهذا يبدأ من الأسرة والأقارب ثم الأصدقاء المقربين، والذين لا بد أن يكون فيهم من بني جلدتهم، ثم تقوية الرابط في الوطن ولكن دونما عنصرية ضد الآخر، وهنا أضيف أنه من الضرورة أن يعلم الطفل الحب والعرفان للبلد والشعب الذي يعيش في وسطه، خاصة إذا كانت الأم ابنة هذا البلد، فهنا يحذر أن يعلم الطفل أن أحد الجنسيتين أفضل من الأخرى أو أن أحد الجنسيتين هي جنسية غريبة وليست حقيقية، يجب أن يترعرع الطفل على الحب والعرفان معاً.
  • الأعياد الدينية، يجب أن يتعود الطفل على خصوصية شعائره وإن هذا أوضح ما يكون في الأعياد الإسلامية، وهنا يحرص من أن يعود الطفل على أن يرى مظاهر البهجة في الأعياد الغربية، وألا يراها في أعياده.
  • ربط الأطفال بالبرامج التي تنظمها المراكز الإسلامية، وربطهم بصلاة الجمعة، وحضور أنشطتها قدر المستطاع، حيث يترعرع الطفل ويكون له المعلم ويكون له الصديق، وهذا من أعم عوامل التربية في الغرب، بشرط أن تكون من المراكز التي عرف عنها الاعتدال!

المشاركة السادسة.. من: هاني صلاح – صحفي متخصص في شئون الأقليات المسلمة، وتتضمن سؤالين (رقم 10، 11):

10 ـ المجتمع المسلم في أوروبا والغرب بشكل خاص وفي كثير من الدول الغير مسلمة حول العالم يتكون من شرائح مختلفة يميزها ثلاثة شرائح عامة هي (السكان المسلمين المحليين) ثم (المسلمين الوافدين/المهاجرين) ثم أضيفت لهم خلال العقود القليلة الماضية شريحة ( المسلمين الجدد)، وكان واضحاً بأن لكل شريحة كان هناك مؤسسات تعني بها… وأسلوب في الدعوة والخطاب..

الآن ومع ظهور الجيل الثاني من أبناء هذه الشرائح الثلاث في المجتمع الواحد يبدو أنني فهمت أنكم تقصدون توحيد المؤسسات والخطاب واللغة التي ترعاهم وتقوم على تنشئتهم تنشئة إسلامية بطريقة موحدة تحرص على جمعهم على المصادر الأصيلة لفهم الإسلام.. وهو ما يمهد لظهور جيل مسلم يشترك في فهمه للإسلام وتتلاشى الخلافات العرقية بينهم تدريجيا باعتبارهم أبناء وطن واحد..

فهل ممكن إلقاء الضوء على هذه النقطة المحورية الهامة.. وهل ما فهمته صحيح؟

بارك الله فيك أخي الحبيب وأهلا بك!

نعم هذا ما قصدته تماما، فطالما عانينا في الغرب من نزاعات، تنزع الألفة من الصدور وتمزق وحدة المسلمين، وتقسم المساجد إلى مساجد مؤمنة ومساجد كافرة، خصامات يفرط فيها بالأصول من أجل فروع الفروع…

فما زلنا وللأسف لهذا اليوم نتكلم في اختلاف المطالع، فيصوم أحدنا ولا يصوم الآخر، ويكون عيد أحدنا ولا يكون للآخر عيد، فإذا سألت أحدهم لماذا يا فلان؟ قال لك قرأت في الإنترنت، ويتنازع البعض في يوم عيدهم، فبعضهم يسمع الموسيقى ومنهم من يفسقهم، فإذا سألتهم قال أحدهم لقد سمعت أن فلان قد قال!!!!

نزاعات كثيرة جعلت مسألة توحيد الخطاب شيئا بعيد المنال، ما نتكلم عنه الآن هو إنشاء جيل كشريحة هي الأوسع الآن وإن صغر سنهم، ولكنهم جميعاً يكونون نشؤوا على مفاهيم واحدة، إذًا ما نتكلم عنه اليوم هو وحدة المفاهيم، وليس وحدة الخطاب، وذلك عن طريق تربية النشء على مفاهيم حب الوحدة والحفاظ عليها كأساس أول لنهضة المستقبل، وعلى كره النزاعات ونبذ كل أسبابها. ولا يمكن هذا إلا عن طريق إنشاء مؤسسات تعليمية حرة، همها الأول تربية النشأ بعيدا عن الخلافات والمواقف، حتى تكون المرجعية الأولى لمفاهيم الطفل، وكذلك عن طريق المربين القدوة، القادرين على استيعاب الطفل ومساعدته على التعبير عن رأيه بحرية وفي نفس الوقت تقبل رأي الآخر.

 

11 ـ بلا شك أن مشروع المدرسة الإسلامية الرسمية في الدول غير المسلمة يعد أبرز وأهم المشروعات التي ترسخ الهوية لدى الأجيال الناشئة من أبناء المسلمين.. فهل يمكن إلقاء الضوء على مدرستكم الأولى في أوكرانيا:

كيف نجحتم في هذا المشروع؟ وما أبرز نقاط القوة فيه؟

سبق أن قام البعض بإجراء محاولات لفتح مدارس للأقليات العرقية في أوكرانيا، وأذكر أهمها هنا:

– المدارس التركية، التي كانت تعمل بمناهج غربية متطورة باللغة الإنجليزية، ومع أنها كانت على مستوى عال في تعليم النشء من الجانب الثقافي والعلمي، إلا أن هذه المدارس كانت مخصصة لأبناء الحملات الدبلوماسية وأصحاب الدخل العالي، دون عامة الناس، كما أنها كانت تركز على الجوانب الإنسانية، دون تركيز على الخصوصية الدينية، ما جعلها أقرب ما تكون للعلمانية، وبعيدة كل البعد عن هدف الاندماج؛ حيث إن أغلب روادها كانوا من سكان أوكرانيا لفترات قصيرة…

– المدارس العربية، وكان لهذه المدارس حضور واضح من قبل أبناء الجالية العربية، خاصة أن التعليم فيها كان يجري باللغة العربية، ما ساعد على الحفاظ على المعالم العربية من لغة وعادات وتقاليد. لكن للأسف كان لهذه المدارس مشاكل عدة، أولها أنها لا تخدم الشريحة الواسعة من المسلمين ذوي الجنسيات غير الناطقة بالعربية، كما أنها كانت تدرس بمناهج دول عربية، ما عزز العزلة بين أبناء الجالية والمجتمع من حوله، وكذلك كانت هناك صعوبة بتأمين المتخصصين التربويين من وسط الجالية نفسها، القادرين على تعليم النشء تعليماً احترافياً، ما جعل المستوى التعليمي في هذه المدارس منخفضاً نسبياً إذا ما قورن مع المدارس المحلية.

– أما التجربة التي قمنا بها والتي تعتبر الأولى من نوعها، فهي تجربة إنشاء مدرسة نموذجية تعمل بالمنهاج المحلي واللغة المحلية، وعن طريق مدرسين محترفين من المواطنين المحلين بغض النظر عن دينهم، وإضافة بعض المواد المتممة مثل اللغة العربية والثقافة الإسلامية، ودروس القرآن وحفظه، واعتماد مقاييس تربوية إسلامية، لكن أهم تحديات هذه التجربة هي نشر هذه المدارس على مستوى جميع المدن حتى تكون في منال الجميع، ثم تطوير منهاج العمل فيها حتى يصبح منافساً لغيره من المدارس المحلية، ومن المهم أيضاً أن تكون هذه المدارس قادرة على استيعاب الطلاب المسلمين وغير المسلمين!!

* المصدر: موقع مجلة المجتمع.

مواضيع ذات صلة