الانفصام الدعوي (2 /5).. مع النفس

محب الدين الخطيب.. إصلاح دائم

أسامة شحادة **

لا يضر محبّ الدين أن كثيرا من الناشئة والعامة بل والخاصة لا يعرف له قدره ودوره، فهو آثر دوماً أن يكون في الصف الخلفي والمتواري، رغم

محب الدين الخطيب

الشيخ محب الدين الخطيب

أنه كان يستطيع وبكل سهولة أن يكون محط الأنظار وصاحب القرار، لكنه منذ نشأ وهو يعي أهمية الإخلاص للنجاح وأن القضية نهضة أمة وليست مكانة فرد، وعلى هذا ربى أبناءه وإخوانه.

يكاد محب الدين أن يكون الجندي المجهول في ظهور الصحوة الإسلامية المعاصرة، فهو صاحب التجربة والخبرة الطويلة مع العلم والحكمة، والتي منحها للجيل التالي الذي كان على رأسه الأستاذ حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين، ومن آخرهم الشيخ محمد إسماعيل المقدم الأب العلمي للدعوة السلفية بالإسكندرية، ويكفينا شهادة الشيخ زهير الشاويش وهو المؤرخ النبيه للتاريخ المعاصر فيقول عن محب الدين: “وبقي حتى وفاته لولب الحركات الإسلامية في مصر”، وقال عنه عبد الغني العطري: “شعلة من الحيوية والذكاء، والغيرة على العروبة، وكان قبل هذا من أكبر الدعاة للإسلام في العصر الحديث”.

لعب محب الدين أدواراً إصلاحية متعددة ومتميزة، وذلك بما حباه الله من شخصية فريدة وعقلية علمية منظمة.

مولده ونشأته

 ولد محب الدين الخطيب في دمشق سنة 1303هـ، 1886م، وعائلته من الأشراف وأصلها من بغداد، وهي معروفة بالعلم والفضل، فأبوه هو الشيخ أبو الفتح الخطيب، من علماء دمشق ومدرسيها وخطبائها، وكان أول أمين عين للمكتبة الظاهرية التي أسسها الشيخ طاهر الجزائري، وبقي مسؤولاً عنها حتى وفاته، كما أن جده الشيخ عبدالقادر الخطيب كان من علماء دمشق.

تعرض محب الدين لليتم مبكراً، فقد توفيت والدته وعمره 7 سنوات وذلك أثناء عودتها من الحج ودفنت في الطريق بين مكة والمدينة، فتولاه والده برعايته واهتمامه، ولكنه سرعان ما توفي أيضاً بعد 5 سنوات من وفاة أمه.

تعلم محب الدين مبكراً القراءة والكتابة وتلاوة القرآن قبل ذهابه للحج، وبعد رجوعه لدمشق ألحقه أبوه بالتعليم الابتدائي واختار له أفضل مدرسة وهي مدرسة الترقي النموذجية، والتي كانت تتشارك مع المكتبة الظاهرية في نفس البناء الكبير، وهذا وثق علاقة محب الدين بأبيه وبالمكتبة الظاهرية مبكراً، فهو كان يرافق أباه كل صباح للمدرسة، وأيضاً في ساعة الظهر يعود لأبيه فيتغدى معه، وفي المساء يعود مع معه للبيت.

وبعد أن تخرج بتفوق من المرحلة الابتدائية، ألحقه أبوه بالتعليم الثانوي في المدرسة الوحيدة في دمشق وهي مشهورة باسم “مكتب عنبر” التي تخرج منها فطاحلة الشام، ولكن بعد سنة من التحاقه بها توفي أبوه، وتيتم محب الدين وعمره 13 سنة، فرأى أهله أن يترك المدرسة ويمضي في طلب العلم الشرعي كأبيه، فقضى سنتان يدرس على علماء الأسرة وغيرهم، وكانت ترعاه أخته الكبيرة.

عناية الشيخ طاهر الجزائري بمحب الدين

 يقول الخطيب في مذكراته: “ثم قيّض الله لهذا اليتيم الضعيف أستاذاً في أسمى مراتب الإنسانية، فأخذ بيده، وأحسن توجيهه في الطريق الذي هداه الله إليه في الحياة..، فهو أبوه الروحي”، ويبدو أن الشيخ طاهر في تلك السنتين كان خارج دمشق، فلما عاد وعلم بوفاة صديقه أبي الفتح، سعى لدى مديرية أوقاف دمشق بصفته المفتش العام للدولة العثمانية على دور الكتب، على تكليف الولد بوظيفة أبيه على أن ينوب عنه من يقوم بالعمل حتى يبلغ سن الرشد، وفي فترة انتظار ابتداء الدراسة كلفه الشيخ طاهر بنسخ بعض مخطوطات الظاهرية لأئمة الإسلام كابن تيمية وأضرابه لتتوسع مداركه وينتفع علمياً وتتنوع ثقافته ويستفيد مالياً بأجرة النسخ، ولا تزال هناك مخطوطات بخط محب الدين في فتوّته في الخزانة التيمورية بدار الكتب المصرية، وهذا يدل على العلاقة الوثيقة والعميقة لمحب الدين بالعلم وبالسلفية وبالمخطوطات منذ حداثة سنه، وليس بسبب علاقته بالدولة السعودية أو الوهابية.

ثم حثه الشيخ طاهر على العودة للدراسة في مكتب عنبر، ومدة الدراسة فيها سبع سنوات، والدراسة فيها باللغة التركية حتى اللغة العربية كانت تدرس بالتركية! وبقي محب الدين يدرس في مكتب عنبر حتى السنة السادسة، إذ ضُبط محب الدين يطالع في داخل الفصل كتاباً سياسياً ممنوعاً، فيه قصائد لبعض الأتراك المناهضين للاستبداد الحميدي، فعمل لمحب الدين محضر تحقيق، ووقفت الإدارة ضده وعملت على رسوبه، لكنها لم تفلح، فتقدم بطلب انتقال إلى مدرسة بيروت الثانوية، فأكمل دراسته فيها وتخرج من الثانوية سنة 1905م.

وسبب مطالعته لهذه الكتب الممنوعة أنه بأمر من الشيخ طاهر كان يتردد على مدرسة عبدالله عند الأستاذ أحمد النويرتي لتعلم العربية، والذي قرأ عليه ألفية ابن مالك، وأتقن تلاوة القرآن واستفاد من أخلاقه وخبرته بالناس وكيفية التعامل معهم، وأيضاً في هذه المدرسة كان هناك غرفة للعلامة جمال الدين القاسمي يلتقي فيها تلاميذه ومنهم أخوه الصغير صلاح الدين القاسمي صديق العمر لمحب الدين، فكانوا يحضرون بعض مجالسه، وأيضاً كان للشيخ طاهر غرفة يلتقي فيها أصحابه وخلانه، والذين كان لهم حلقة تعرف بحلقة دمشق تضم رواد الفكر والإصلاح كالشيخ طاهر والقاسمي والشيخ عبدالرزاق البيطار ومحمد كرد علي وسليم البخاري وغيرهم، كان محب الدين الاستثناء بينهم لصغر سنه، وكانت هذه الحلقة هي المحضن الأساس لصقل شخصية ومنهجية محب الدين باتجاه الالتزام بالإصلاح الديني والشامل لكل مناحي الحياة، وضرورة العمل على بث العلم والعمل والمشاركة في الشأن العام لما فيه نهضة الأمة ومحاربة العدوان عليها من الداخل والخارج.

هذه العلاقة بين محب الدين والشيخ طاهر جعلته يوسع معارفه وثقافته ويحرص على المطالعة في دار الكتب الظاهرية وفي جمعية القديس يوحنا الأرثوذكسية والتي خصصت غرفا للمطالعة في مدخل حي النصارى بدمشق، وكان يطالع فيها مجلات مصر الكبرى كالمقتطف والهلال، وأيضاً كان يحرص على شراء الكتب من بيروت ودمشق، واكتسب محب الدين صفة حميدة هي أن الكتاب الذي يروق له يقوم بقراءته مرة أخرى مع أصدقائه، وبذلك شكل محب الدين الحلقة الصغرى بدمشق وكان هو حلقة الوصل بين الحلقتين الكبرى بقيادة الشيخ طاهر والصغرى بقيادته، وكان له ثلاثة زملاء يشاركونه همّه وهمته وهم: الأمير عارف الشهابي، و د. صلاح القاسمي، وصالح قنباز، لكنهم ماتوا مبكراً، وبقي محب الدين وحده يحارب في سبيل المبادئ التي آمنوا بها.

وفي هذه المرحلة بدأ محب الدين محاولة كتابة المقالات، وذلك بالترجمة من المجلات التركية ونشرها في مجلة ثمرات الفنون، وكان يوقع بحرفي (م. خ)، ثم صرح باسمه، وفيما بعد سيصبح محب الدين من أهم كتاب ومنشئي الصحافة الإسلامية.

الانتقال للجامعة في إستنبول

 في نهاية عام 1905م وصل محب الدين إستنبول، عاصمة الدولة العثمانية، والتحق بكليتي الحقوق والآداب، لكنه صدم بأن غالب الطلاب العرب هناك يجهلون قواعد النحو والإملاء العربية، فضلاً عن جهلهم بالأدب والثقافة العربية، بل حتى أنهم يتكلمون بالتركية فيما بينهم، وأن حرصهم متوجه لتعلم التركية وإتقانها للحصول على وظيفة جيدة ومرموقة. وقرر محب الدين تغيير هذا الحال مع ما فيه من خطورة، وهذا يكشف لنا عن جوانب مظلمة في تاريخ الدولة العثمانية والتي كانت سبباً في زوالها وسبباً في ثورة الناس ضدها، خاصة حين تم الانقلاب على السلطان عبد الحميد ومن ثم إلغاء الخلافة والإسلام على يد أتاتورك.

فطلب محب الدين من محمد كرد علي الذي تعرف عليه في حلقة دمشق الكبرى، أن يرسل له بالبريد ما يفيض لديه من صحف عربية ومجلات، لينشرها بين شباب العرب بإستنبول، وفعلا أصبح كثير من الشبان يزورون غرفة محب الدين للاطلاع على المجلات العربية.

ولم يكتفِ بهذا بل قام بعقد جلسات في النحو لبعض الطلبة ولمّا زاد عددهم قسمهم إلى مجموعتين: مجموعة بقيادته ومجموعة بقيادة الأمير عارف الشهابي، وقد فرض محب الدين غرامات على من يتغيب عن الدرس، ثم أطلق على هؤلاء الشبان وعملهم اسم (جمعية النهضة العربية) في سنة 1906م، ثم نقل نشاطه إلى قهوة يرتادها الشبان العرب، ولما زاد العدد بحث عن مكان يقيم فيه احتفالا لهم، واستقر رأيه على حديقة لأحد أعيان البصرة في جزيرة، وتم ذلك الحفل في سنة 1907، وهنا تنبهت السلطات لهذا النشاط وبدأت تلاحقه.

وفعلا جاء لغرفة محب الدين أحد المسؤولين لضبط صاحب الغرفة، وشاءت إرادة الله أن يكون عربياً وصديقاً لعم محب الدين، فنصحه بإيقاف نشاطه وإتلاف ما لديه من أوراق وصحف عربية، وفعلا عمل محب الدين ورفاقه بالنصيحة، وكان محب الدين قد أنهى السنة الثانية من دراسة الحقوق بنجاح وأوقف دراسة الآداب بسبب عدم تفرغه، ولما زادت المراقبة والمضايقة، اقترح عليه رفاقه أن يقضي العطلة الصيفية في دمشق، لتهدئة الأوضاع ثم يعود فيكمل دراسته، ولكن من هنا سارت حياة محب الدين في محطات متنوعة وكثيرة ولم يكن منها إكمال دراسة الحقوق قط!!

من المهم هنا التنبه إلى أن جمعية النهضة العربية التي أسسها محب الدين في إستنبول سنة 1906م، هي أول جمعية يؤسسها محب الدين وعمره 20 سنة، وستكون فاتحة عمله ومشاركته المحورية في العديد من الجمعيات والتنظيمات، ويمكن أن نستنتج من هذا أن محب الدين استفاد من حلقة دمشق بقيادة الشيخ طاهر المعرفة بالجمعيات ودورها المركزي في السعي لتحقيق الإصلاح.

العودة إلى دمشق

 في صيف سنة 1907م عاد محب الدين إلى دمشق لصرف الأنظار عن نشاطه بالعاصمة إستنبول ، وكانت فرصة لمتابعة فرع دمشق من جمعيته النهضة العربية، إذ كان محب الدين قد راسل من إستنبول اثنين من أعضاء حلقته الصغرى بدمشق بخبر الجمعية وطلب منهما إنشاء فرع لها بدمشق، وفعلا قاما بذلك ولما جاء محب الدين اجتمع بأعضاء الفرع الدمشقي.

كان محب الدين يظن أن بقاءه في دمشق سيكون لفترة قصيرة، لكن سرعان ما جاءته رسالة من رفاقه هناك تدعوه للبقاء سنة بعيداً عن إستنبول، وذلك بسبب وشايات ودعايات ضده يروجها بعض الحاقدين، ولذلك تقرر نقل مركز الجمعية لدمشق، وكان مما تميزت به هذه الجمعية عن سواها من الجمعيات العربية أنها لم تقتصر على أعضاء من مدينة أوبلد واحد، بل تنوعت بلاد أعضائها لكونها نشأت في العاصمة العثمانية وليس في قطر عربي.

السفر إلى اليمن

 لما تقرر ابتعاد محب الدين سنة كاملة عن الجامعة بحث عن مهمة يقوم بها، وفعلا سمع في حلقة دمشق والتي بقيت تعقد جلساتها رغم هجرة الشيخ طاهر الجزائري إلى القاهرة عن طلب القنصلية البريطانية بمدينة الحُدَيدة باليمن مترجما لها، فطلب أن توكل إليه فاعترض أعضاء الحلقة، لأنهم يرون أنه لا بد أن يكمل دراسته الحقوقية ولأنهم يعلّقون عليه آمالاً كثيرة، فلما أخبرهم أنه لا يمكنه العودة حاليا للدراسة، وأنها فرصة للتعرف على أحوال اليمن والعمل على التواصل مع أهله لنهضة الأمة، وافقوا وساعدوه على الحصول على الوظيفة، ومنها ندرك أن حلقة دمشق كانت حلقة علم وعمل وتخطيط ونهضة.

سافر محب الدين إلى اليمن مروراً بالقاهرة، فلقي شيخه الجزائري وصديقه كرد علي وتناول الحديث جمعية النهضة العربية ودورها المرتقب، وهناك التقى بعدد من قادة الرأي والعلماء والمصلحين مما ساعده فيما بعد على الاستقرار بالقاهرة، ومن أهم نتائج زيارته للقاهرة تعرفه على جمعية الشورى العثمانية التي تدعو إلى حكم الشورى بعودة الحكم النيابي ومحاربة الاستبداد، وكان على رأسها الأديب التركي عبدالله بك جودت والسيد رشيد رضا ورفيق بك العظم، وكان للجمعية 13 فرعاً بالبلاد العربية وأوكلوا لمحب الدين افتتاح فرع لها باليمن من العثمانيين الصالحين.

وواصل محب الدين طريقه لليمن فوصلها في 27/11/1907م، وهناك حرص على التواصل مع اليمنيين والتعرف على أحوالهم، وفعلا ًاستطاع في وقت سريع التعرف على مجموعة من الضباط العرب الذين أبعدوا لليمن عقوبة لهم على رفضهم للظلم والاستبداد، وعلى رأسهم قائد الحُديدة البكباشي شوقي بك المؤيد العظم، وأسسوا فرعاً لجمعية الشورى العثمانية، بعد اطلاعهم على قانونها وصحيفتها الصادرة بالعربية والتركية، وأصبح هؤلاء الضباط ينشرون فكر الجمعية باليمن.

وهناك تعرف محب الدين إلى القاضي الشرعي وأصله من مسلمي بعض الجزر في البحر الأبيض، فحرص على تحبيبه بكتب شيخ الإسلام ابن تيمية، فمحب الدين كان يسعى للإصلاح الشامل وعلى جميع الأصعدة.

ومن اليمن كان يواصل المراسلة مع رفاقه في جمعية النهضة بدمشق وجمعية الشورى بالقاهرة ويتابع مسيرة الإصلاح في دمشق والقاهرة واليمن، ولما أعلن السلطان عبد الحميد إعادة العمل بالدستور سنة 1908م، تجاهل قائد اليمن ذلك، في محاولة لإبقاء الحال على ما هو عليه، واستغلال جهل الناس وبُعد اليمن عن العاصمة بعدم تغيير الواقع.

لكن محب الدين أقنع رفاقه بالقيام باحتفال علني بعودة الدستور وفرض ذلك على القيادة، وفعلا تم إطلاق المدافع والصواريخ فرحا بعودة الدستور وأسقط في أيدي القادة.

في تلك المرحلة كان هدف الكثير من المصلحين العمل على محاربة الاستبداد والضعف، ولم يكن هناك تفكير عند المصلحين العرب وخاصة المسلمين منهم بالانفصال عن الدولة العثمانية، بل غايتهم تقويتها وإصلاحها، ولم تكن التمايزات قد ظهرت ولم يكن هناك وضوح في الخيارات الأيديولوجية، وذلك حين فرض الدستور فرحت جمعية الشورى العثمانية واندمجت في جمعية الاتحاد والترقي والتي كانت تمسك بمفاصل الحكم في إستنبول. من المهم هنا الانتباه إلى أن مساوئ جمعية الاتحاد والترقي لم تظهر إلا بعد سنة 1910م تقريباً وبشكل متدرج، حتى وصلت إلى مرحلة إلغاء الخلافة سنة 1924م، ومن هنا يجب الحذر من إطلاق الأحكام بشكل اعتباطي دون مراعاة للزمان والظروف.

ومن نشاطات محب الدين بالحُدَيدة قيامه بتجديد وتطوير المدرسة الأميرية فيها، فقد طلب من زملائه في جمعية الشورى التطوع للتدريس مجانا للطلبة، وحث التجار على التبرع بأحذية وأقمشة لتوفير زي مدرسي للطلبة، ونظم محب الدين للطلبة بعض الأناشيد، ووفر لهم عسكريا ينظم لهم بعض الألعاب الرياضية والتمارين، فارتفع عدد الطلبة من 3 إلى 300 في أسبوعين.

وكان محب الدين يؤمن أن المعلم هو المسؤول الأول وبشكل كبير عن نقل الأمة من حالة التخلف والجمود إلى حالة الرقي والتقدم، ولذلك اهتم في العديد من مقالاته بالتركيز على هذه القضية وألّف فيها كتابه “إصلاح الأزهر”، كما أنه شارك في تجربة السيد رشيد رضا بإقامة مدرسة الدعوة والإرشاد والتي كانت تهدف لإعداد الدعاة والمعلمين لكن لم يكتب لها الاستمرار طويلا، حيث أسند إليه رشيد رضا تدريس مادة طبقات الأرض (الجيولوجيا).

ثم عمل محب الدين على إنشاء مطبعة وجريدة تنهض باليمن ثقافياً، فحث زملاءه على تأسيس شركة مساهمة لهذا الغرض، وفعلا وافق على ذلك مجموعة من الناس، وقام محب الدين بمخاطبة شركات آلات الطباعة للحصول على (كتالوجاتها)، لكنه لم يتمكن من إتمام المشروع، بسبب مطالبة جمعية النهضة العربية له بسرعة العودة لدمشق لإصدار صحيفة باسم (النهضة العربية).

وفي اليمن بعد عودة الدستور سعى محب الدين للصلح بين الدولة العثمانية والإمام يحيى (حاكم اليمن)، وذلك بإقناع الطرفين أن العداء كان بسبب الظلم، وبما أن الأمور تغيرت فلنفتح صفحة جديدة بين الطرفين، يطلق الإمام ما لديه من جنود عثمانيين أسرى وهم 300 أسير، وتعترف الدولة للإمام بوضعية مماثلة لوضعية شريف مكة في الشؤون الدينية، وللدولة سائر الشؤون السياسية والاقتصادية والعسكرية، وفعلا تم الاتفاق واستمر هذا الحال إلى نهاية الحرب العالمية الأولى.

وبعد سنة تقريباً غادر محب الدين اليمن عائداً إلى دمشق، وترك خلفه فيها بصمات قوية وظاهرة، وهي تحتاج إلى بحث أعمق عمّا آلت له بعد سفره، ويجب أن نتذكر أن محب الدين فعل كل هذا وهو لا يزال في الرابعة والعشرين من عمره!

العودة إلى دمشق

 وعن خططه لهذه المرحلة: “كانت النية أن يعمل على تجديد نشاط جمعية النهضة العربية، وأن يصدر في دمشق صحيفة باسم الجمعية، وأن يكون ذلك في داخل نطاق الدستور العثماني وقوانينه”، لكنه فوجئ بـ “أن الدولة تأبى أن تعترف بعنوان جمعية النهضة العربية، لأن كلمة العربية غير مرغوب فيها من الدولة العثمانية، وأجبروا الجمعية على أن تجعل اسمها (جمعية النهضة السورية)”، وكانت هذه من إرهاصات خلاف محب الدين ورفاقه العرب مع الاتحاديين، خاصة حين ساءت الأحوال في كل الدولة العثمانية بسبب سياسات الاتحاديين المنحرفة.

وبعد أشهر معدودة من عودته لدمشق قام بكتابة مقالات لمجلة فكاهية ساخرة ومنتقدة للأحوال الفوضوية بعد إعادة العمل بالدستور العثماني سماها عمال المطبعة (طار الخرج)، فاستاءت الحكومة من هذه المجلة وبحثت عن الكاتب والناشر لها، فنبهه أصدقاؤه في الحكومة لضرورة المغادرة، فسافر لبيروت، ومن ثم أرسلوا له رسالة طالبوه بالسفر لإستنبول حتى لا تقبض عليه السلطات.

بقي هناك بضعة أشهر حتى علمت حكومة سوريا بوجوده بالعاصمة، فلاحقته، فلم يجد بدا من الهرب للقاهرة الواقعة آنذاك تحت حكم الإنجليز، حتى لا تطاله يد حكومة الاتحاد والترقي، الذين كانوا شركاءه!

الاستقرار في القاهرة

 وصل القاهرة في أغسطس/ آب 1909م، وهنا تبدأ مرحلة جديدة في حياة محب الدين وتستمر معه 60 عاماً يظهر فيها الجانب الثقافي والإعلامي أكثر من الجانب السياسي، الذي سار فيه محب الدين إلى أن وصل لطريق مسدود فتركه غير متأسف عليه!

وهنا سنتناول سيرة محب بشكل موضوعي، حتى نمتلك صورة متكاملة لجهود محب الدين الإصلاحية والتي توزعت على المجالات السياسية والتعليمية والثقافية والصحفية.

نشاطه السياسي في الجمعيات والأحزاب

 لم يشارك محب الدين في كثير من الجمعيات والأحزاب التي ظهرت في زمانه، بل كان غالباً في قيادتها، وبل ويشغل منصب أمين السر الذي يحتفظ بالوثائق والمراسلات، ولقد كان محب الدين منظما في إدارة هذه الملفات والوثائق وتصنيفها وحفظها، بحيث أن مكتبته الشخصية وأرشيفه كانا المصدر الأساسي لعدد من الطروحات الجامعية عن تلك الحقبة من تاريخ العرب والمنطقة.

مر معنا أن محب الدين تعرف على فكرة الجمعيات والأحزاب في حلقة دمشق الكبرى بزعامة شيخه طاهر الجزائري، وكانت جمعية النهضة العربية التي أسسها وهو طالب بإستنبول سنة 1906م أول جمعية له، ثم انضم سنة 1906 لجمعية الشورى العثمانية وفتح لها فرعاً باليمن، والتي اندمجت بجمعية الاتحاد والترقي، لكن سرعان ما ظهر له ولغيره حقيقة الاتحاديين فأصبح عدواً لهم.

وبعد استقراره بالقاهرة شارك في تأسيس حزب اللامركزية العثماني عام 1913م والذي رأسه رفيق العظم ومن أعضائه رشيد رضا، وأصبح محب الدين عضواً بمجلس الإدارة وكاتم سره الثاني.

وفي نفس الوقت كان ممثل جمعية (العربية الفتاة) التي تأسست في بيروت، ثم في باريس سنة 1909م، وكان بمثابة صوتها في حزب اللامركزية العثماني، وقد كان محب الدين هو الذي استحصل موافقة الحزب على المشاركة في المؤتمر العربي الأول في باريس سنة 1913م والذي نظمته (العربية الفتاة) بشكل غير مباشر، وقد أصدر محب الدين كتابا خاصاً عن المؤتمر نشر كملحق في جريدة المؤيد، وقد كان للمؤتمر تأثير قوي على حكومة الاتحاد والترقي لدرجة أنها حكمت بالإعدام على كل من شارك بالمؤتمر، وفعلا نفذ الإعدام بحق كثير منهم حتى سمي المؤتمر بمؤتمر الشهداء!

وهذا الموقع المركزي المتقدم مكن محب الدين من الاتصال بالكثير من الجمعيات الإصلاحية والشخصيات الوطنية في العديد من البلاد العربية، وساعدته على محاربة مخططات الاتحاديين الأتراك والمستعمرين الأوربيين، من خلال هذه الصلات كان رجالات الإصلاح يسندون المهام السياسية والإصلاحية لرفاقهم في الجمعيات والأحزاب في أي موقع يحصل به شاغر، وهذا يفسر تعدد الدول التي يظهر بها نشاط لمحب الدين وأمثاله في تلك الحقبة من الزمان.

وعند نشوب الحرب العالمية الأولى رأى قيادات حزب اللامركزية وجمعية العربية الفتاة أن مصلحة العرب عدم الدخول في الحرب إلى جانب طرف ضد طرف، وتقرر إرسال مندوبين للزعماء العرب لمفاوضتهم في ذلك، وتم تكليف محب الدين بالسفر إلى الخليج العربي والاجتماع بأمير نجد والإحساء الأمير عبد العزيز آل سعود، وزعيم العراق السيد طالب النقيب لتلك الغاية، فسافر سنة 1914م ومعه دليل وهو طالب من الخليج يدرس بمدرسة الدعوة والإرشاد التي أسسها السيد رشيد رضا، فركبا من السويس لعدن ومنها إلى بومباي بالهند، ثم يعودان للخليج وينزلان بالكويت وينطلقان للأمير عبد العزيز، وكان هذا يعد أيسر طرق المواصلات آنذاك، ولكن القوات البريطانية راقبتهم من بومباي، وقبل نزولهم من الباخرة بالكويت تم اعتقالهما ونقلهما للبصرة، وبقي محب الدين معتقلا سبعة شهور، وقد استغل هذه الخلوة الإجبارية بالمطالعة من خلال تعاطف شرطي عراقي كان يستعير له الكتب من مكتبة أديب عراقي.

وفي أثناء اعتقاله أوفدت العربية الفتاة الشيخ كامل القصاب لمصر، ومن ثم عاد لسوريا وسافر للحجاز، وهناك ساهم في انطلاق الثورة العربية ضد الاتحاديين، الذين كانوا لا يراعون المصالح العربية، واحتاج الشريف حسين لمن يساعده على توطيد حكمه فاستعان برجالات العرب، وأشار عليه الشيخ القصاب بإحضار محب الدين ليتولى الجانب الإعلامي، وهو ما سنفصله في عمله الصحافي، بعد قليل.

ولكن محب الدين ورجالات العربية الفتاة، لم يجدوا أن الحسين يسعى معهم لنهضة عربية شاملة، بقدر حرصه على عدم سلب الأتراك حكم الحجاز منه، ولذلك سافر لدمشق سنة 1919 وهناك طلب منه الأمير فيصل ومن الشيخ القصاب أن يعملا على تسليح الشعب ريثما يسافر لفرنسا للتفاوض معها.

وفعلا قاما بتأسيس اللجنة الوطنية العليا، والتي نظمت الناس ودربتهم وسلحتهم بما تيسر، ولما عاد الأمير فيصل بغير ما ذهب به، وقام القائد الفرنسي بالزحف لاحتلال دمشق، قاد الخطيب والقصاب الناس للمقاومة، ولكن القوة لم تكن متكافئة ولا القيادة متحمسة، فلم يكن من جدوى لإطالة المقاومة،  فهرب محب الدين للقاهرة، وهذا كان نهاية عمله السياسي تقريباً، وتوجهه للعمل الإعلامي والثقافي، فالخلافة أُلغيت والبلاد العربية احتلت، ولكن محب الدين واصل دعمه للجمعيات والجماعات الإسلامية، كجمعية الشبان المسلمين وجماعة الإخوان المسلمين.

إنشاء المكتبة السلفية

 عقب وصوله للقاهرة سنة 1919م وبثمن منزل له في دمشق كان قد باعه، قام بتأسيس المكتبة السلفية سنة 1327 هـ، وذلك لـ “نشر النادر المنتقى من كتب السلف، والنافع المرتضى من المؤلفات العصرية عربية أو معربة”، وشاركه في المكتبة صهره عبد الفتاح قتلان، ثم تمكنا من تأسيس مطبعة خاصة للمكتبة سنة 1340هـ، وساهمت المكتبة السلفية ومطبعتها ببعث نهضة ثقافية متميزة من خلال اعتنائها بنشر المفيد من الكتب وجوْدة الطباعة والتصحيح لما تطبع، وأشار محب الدين في أحد مقالاته بمجلة الفتح أنه قام بفتح فرع للمطبعة بمكة المكرمة، وذلك في عهد الملك عبدالعزيز، ولكننا لا نعرف شيئاً عن تفاصيل هذا الفرع.

ومن خلال سجل مطبوعاتها لسنة 1349هـ، نجد تنوعاً كبيراً في مطبوعاتها، فبجوار العديد من كتب التراث الشرعي واللغوي، نجد أنها نشرت كتباً في الأخلاق والتزكية تراثية ومعاصرة، ونجد العديد من الكتب الحديثة والتي تدحض شبه المستشرقين والملاحدة ومن تأثر بهم، ونجد المكتبة السلفية هي التي نشرت كتب كبار مثقفي القرن العشرين أمثال الأديب مصطفى صادق الرافعي والعلامة أحمد تيمور باشا والشيخ محمد بخيت المطيعي مفتي مصر والشاعر أحمد أبو شادي، ونجد المكتبة السلفية نشرت كتباً مترجمة في قضايا مهمة ككتاب مقالة في المنهج لديكارت، ومذكرات غليوم الثاني إمبراطور ألمانيا ودوّن فيه أفكاره بعد الحرب العالمية الأولى.

وكذلك اهتم محب الدين بنشر الروايات والقصص الأدبية بشكل ملحوظ، وبعضها مترجم من الإنجليزية والفرنسية والتركية، بل إن محب الدين نفسه قام بترجمة رواية لكاتبة تركية تدعى خالدة أديب وروايتها باسم (قميص من نار) تصف فيها جهود الترك لرد عدوان اليونانيين على غرب الأناضول، مما يدل على سعة أفق محب الدين وإدراكه المبكر لدور الرواية والقصة في الجيل الحاضر، وهو الوعي الذي غاب عن أجيال السلفية المعاصرة، بسبب تفريطهم في التواصل مع أعلامهم المعاصرين بالتعرف عليهم ودراسة تجاربهم، والله المستعان.

ولم تكن المكتبة والمطبعة مقرا للعمل فقط، بل كانت مركز قيادة فكرية وإشعاع حضاري، فقد كانت مكاناً يتجمع فيه المخلصون كالشيخ الخضر حسين وتيمور باشا وكرد علي ومحمود وأحمد شاكر، لبحث الأحداث والمستجدات ومن ثم إطلاق المبادرات، ففي المكتبة السلفية كان مولد مجلة الفتح للتصدي لموجة الإلحاد، وفي المكتبة السلفية كان انطلاق فكرة جمعية الشبان المسلمين، وفيها كان تأسيس مجلة الإخوان المسلمين، وغيرها من المبادرات النافعة، ويصفها الأستاذ أنور الجندي بأنها “نبع القلوب الصادقة، تردها من الشباب فئة قليلة الصبر على ضيم ينزل بالأمة العربية من ظلم الاستعمار”.

وكان من رواد المطبعة السلفية: الأستاذ حسن البنا مؤسس الإخوان المسلمين، والذي تردد على المطبعة من سنة 1927م يستفيد من معارف وخبرات الخطيب، وقد ساهمت هذه المعرفة في البنا وفي جماعته الإخوان المسلمين، وبقي الخطيب يستقبل الشباب الإسلامي وشباب الإخوان في مطبعته ويوليهم عنايته كما يحدثنا المستشار عبدالله العقيل.

وبقي محب الدين لآخر يوم في حياته يواصل عمله بالمكتبة والمطبعة، بل نقل المكتبة والمطبعة لبناء جديد فيه بيته أيضاً حتى يحافظ على وقته من الضياع بالذهاب والإياب، وليسهل عليه التأخر فيها لإنجاز الأعمال، ويقوم بمهام من يغيب من العمال، وقد أوصى محب الدين أولاده بالحفاظ على المكتبة والمطبعة وعدم تقسيمها بين الورثة، وأن يكمل أبناؤه من بعده المهمة بنشر العلم والمعرفة، وهي لا تزال قائمة لليوم على ضعف، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

دخوله عالم الصحافة

 حين جاء محب الدين للقاهرة أول مرة من إستنبول سنة 1909، عرّفه شيخه طاهر الجزائري على العلامة أحمد تيمور باشا، ثم طلب منه أن يسعى لمحب الدين للعمل في صحيفة المؤيد التي يصدرها شيخ الصحافة المصرية الشيخ علي يوسف، وذلك لكون تيمور باشا مساهماً في شركة المؤيد التي تصدر الصحيفة، هذا التصرف من الشيخ طاهر كان له بالغ الأثر على تطوير قدرات محب الدين الصحفية والإعلامية، وكذلك بالغ الأثر على إخراج شخصية إعلامية فذة تنصر المشروع الإسلامي في الصحافة وتحمله على كتفها أكثر من 40 سنة، وهو أيضاّ يدل على نفاسة معدن الشيخ طاهر الذي يحرص دوماً على شخصية طلابه وتلاميذه ويسعى لتطويرهم وشق الطريق لهم ليكونوا مشاعل نور وهداية، في تطبيق حي لمعنى التربية والرعاية والأستاذية، رحم الله الجميع.

وقسم محب الدين عمله ففي الصباح في جريدة المؤيد حتى الواحدة بعد الظهر، وبعدها يذهب للمكتبة السلفية يشرف عليها، حيث في الصباح يعمل بها شريكه وأخو زوجته عبد الفتاح قتلان.

وقد لقي محب الدين كل التشجيع والدعم من الشيخ علي، واستفاد منه فائدة عظمى في أسرار العمل الصحفي بقي يشيد بها ويذكرها محب الدن طيلة حياته، وترقى محب الدين في المؤيد فأصبح يمكنه أن ينشر ملحقا للصحيفة بعد العصر، فقد نقل سكنه ليكون قريبا من مبنى المؤيد، فإذا جاءت أخبار عاجلة أرسلها له العمال، فيعمل منها ملحقا صغيرا، يطبع فوراً وينزل للسوق دون الرجوع للشيخ علي، بل كان الشيخ علي يرسل خادمه يشتريه من الباعة كباقي القراء!

ومن على صفحات المؤيد قام محب الدين بالتحذير من خطر التبشير بين المسلمين، فترجم هو ومساعد اليافي مقالة مسيو لوشاتليه والتي نشرت بعنوان “الغارة على العالم الإسلامي”، فأحدثت ضجة كبيرة، وقد تولى محب الدين الرد على مقالات المبشرين التي حاولت التنصل من ذلك.

كما أن محب الدين قام بكتابة العديد من المقالات التي تفضح سياسة الاتحاد والترقي في البلاد العربية، مما عزز الحركة العربية في سوريا والعراق ضد جرائمهم، وهنا لا بد من بيان أن العروبة عند محب الدين لم تكن تنفصل عن الإسلام بأي شكل من الأشكال، ولذلك فإن تسرع البعض لاتهام محب الدين بالغفلة أو العمالة هو ظلم صريح، فمحب الدين يعتبر العربي الذي يتخلى عن أخلاق الإسلام ليس عربياً أصلاً، ولأنه حارب انحراف القوميين حين كشفوا الغطاء عن عدائهم للإسلام، كما حارب الاتحاديين حين عادوا العرب والإسلام، كان محب الدين يقول: “اللغة والدين والتشريع القومي، والإدارة الوطنية، هدية الخالق لخلقه في عشرات الألوف من السنين، ولا يزال أثر هذه الهدية الإلهية دائما ما دامت هذه المقومات الأربعة تسير مع حاجة الأمة بحسب الأجيال”.

واستمر محب الدين فاعلاً في عالم الصحافة في مسيرة طويلة جداً، ومرّ معنا أنه بدأ الكتابة بالترجمة من التركية لمجلة ثمرات الفنون في بيروت، ثم كتب العدد اليتيم من مجلة (طار الخرج)، وعلى إثره هرب من سوريا وتنقل حتى استقر بالقاهرة سنة 1909م، ثم عمل بالمؤيد والتي كانت علامة فارقة في حياته وقال عنها: “وقد استفدت من أساليبه الصحفية، ومن خطته الإسلامية، ما أنا مدين له به ما دمت حياً، فالمؤيد كانت مدرستي الأولى في هذه الصناعة”، وبقي فيها حتى أغلقت في سنة 1913م، ومن خلال صحيفة المؤيد حصل محب الدين على الشهرة العالمية الواسعة.

ثم لما قامت الثورة العربية الكبرى سنة 1916م، طلبه الشريف حسين لمكة المكرمة بناء على توصية من الشيخ كامل القصاب، ليؤسس جريدة القبلة لتكون لسان حكومة الحجاز، وفعلاً أسس محب الدين مجلة القبلة ورأس تحريها ثلاث سنوات، وأسس أيضاً المطابع الأميرية بمكة المكرمة، ثم استأذن بالسفر لدمشق سنة 1919م، وتولى تحرير مجلة العاصمة، والتي أصدرتها حكومة الأمير فيصل، من العدد 47، وفي هاتين المجلتين كانت غالب مقالاته تدعوا لحقّ العرب في الحكم، وضرورة الحكم الدستوري، ورفض أطماع الاستعمار والاتفاقات الدولية.

ولما وجد أن اختيارات الشريف حسين وولده الأمير فيصل السياسية، قصرت عن مطالب محب الدين ورفاقه من المثقفين والقادة، وأنهم قد قبلوا بعقد اتفاقات مع القوى الأوروبية دون مشاورة مع القوى الشعبية، فرفض محب الدين ورفاقه الاحتلال الفرنسي لدمشق، وقاوموا الاحتلال الفرنسي من خلال تأسيسهم اللجنة الوطنية العليا، وبسبب تفوق قوات الاحتلال اضطر محب الدين للهرب مرة ثانية للقاهرة، فعاد لها سنة 1920م.

فأعاد محب الدين افتتاح المكتبة السلفية والتي أغلقها عند سفره للحجاز، والتحق بصحيفة الأهرام حتى سنة 1925م، والأهرام من أقدم الصحف العربية وأهمها في ذلك العصر، وهي علمانية التوجه إذ أسسها أخوان مسيحيان لبنانيان سنة 1876م، وكانت تجربة جديدة لمحب الدين تعرف فيها على مجالات أخرى في عالم الصحافة.

ثم أسس محب الدين مجلته الأولى الزهراء، وهي مجلة أدبية شهرية، استمرت تصدر 5 سنوات (1924- 1929)، وكانت تهدف لنشر فكره الإصلاحي القائم على مزج الأصالة بالتحديث، من خلال المرونة في الاقتباس من الآخرين من وسائل القوة ونظم الإدارة والتخصص في العلوم والأعمال، مع الاحتفاظ بتقاليدنا التاريخية وسجايانا القومية ولساننا الأصيل.

وقد توقفت الزهراء بسبب تحول الأوضاع العامة، وضرورة وجود منبر إعلامي للمشروع الإسلامي يخاطب الشباب والرأي العام لمقاومة التيارات السياسية والثقافية الدخيلة، وترخيص الزهراء لا يسمح بذلك.

وهنا جاء دور ظهور مجلة الفتح سنة 1926م، وذلك بعد تداعي دعاة الإصلاح بطلب من العلامة أحمد تيمور باشا بخطورة موجة الإلحاد التي تنتشر بين الشباب عقب إلغاء الخلافة وسياسات أتاتورك المحاربة للإسلام، وعقد اللقاء بالمطبعة السلفية وحضره الشيخ محمد الخضر حسين شيخ الأزهر لاحقاً، وتقرر إنشاء جمعية لمقاومة ذلك، ولكن لأن الخطر أسرع من ذلك وأهمية الاتصال بالرأي العام والشباب المثقف، فتقرر أيضاً إنشاء مجلة لهذا الغرض.

ورغم أن الحصول على ترخيص لصحيفة إسلامية كان أشبه بالمستحيل – وكأن التاريخ يعيد نفسه – فقد أخذ تيمور باشا على عاتقه ذلك، وفعلا قام بترخيص الفتح وجمعية الشبان المسلمين لهذه الغاية وهي مقاومة التغريب وموجة الإلحاد، وهذه من المآثر المجهولة لتيمور باشا.

بقيت الفتح تصدر أكثر من 20 سنة (1926-1948) وبلغت أعدادها 884، تحمل هم الدفاع عن الإسلام وقضايا المسلمين في كل مكان، وقد نشرت المشروع الإسلامي وكونت وعي الكثير من الأجيال، وصنعت الكثير من قادة الحركة الإسلامية المعروفين اليوم، وقلّ أن تجد أحد المشاهير اليوم لم يكتب في الفتح في مطلع شبابه، وكانت الفتح تصل لكثير من بلاد العالم، وكانت تتميز بأخبارها الخاصة حيث كان يراسلها المخلصون من كل مكان، ومن مراسلي الفتح كان الأستاذ حسن البنا نفسه في مطلع شبابه.

وكان محب الدين قد صنع أرشيفا دقيقا للمراسلات التي تأتيه بحسب الموضوعات والشخصيات، مكنته من القيام بحملات قوية للدفاع عن قضايا المسلمين، وقد تعرض للاعتقال 3 أيام بسبب مقال كتبه عن أتاتورك، وفي سنواتها الأخيرة اهتمت الفتح كثيراً بقضية فلسطين وعملت على توعية الناس بخطورة الزحف اليهودي، وقد حذر العرب والمسلمين من إقامة دولة إسرائيل قبل 13 سنة من وقوع الكارثة، ذلك أنه كان يرى غفلة العرب وهمة اليهود لتطبيق مخطط بازل الصهيوني.

وصدق الحسن الغزالي حين أنشد في الفتح وصاحبها:

تلك السنون لقيت من إعناتها **  ما يذهل الآساد عن أجماتها

 قد جبتها و(الفتح) في يمناك من** نور أضأت بها دجى ليلاتها

 أسطارها تغزو النفوس بلاغة ** وهدى وتغزو الغي في جنباتها

 لم تتوقف الفتح إلا بعد ضغوط كبيرة منها ارتفاع سعر الورق 40 ضعفا، وانقطاع المواصلات، ومنع نشر الإعلانات القضائية التي تدر دخلاً للمجلات، وينقل أبو الحسن الندوي عن الخطيب قوله: “أوقفتها من يوم أصبح حامل المصحف في هذا البلد مجرماً يفتش ويعاقب”، وذلك عقب هزيمة العرب مع دولة اليهود.

وفي سنة 1929 طلب منه صديقه الجزائري الشيخ إبراهيم أطفيش المساعدة في الحفاظ على مجلته المنهاج، والتي كانت مهددة بالإغلاق بسبب تعثر صدورها لعوائق مالية وإدارية، فحولها محب الدين لجريدة أسبوعية بعد أن كانت نصف شهرية، وذلك رغبة منه بالحفاظ عليها لما لها من دور في مكافحة التبشير والاستشراق خاصة في بلاد المغرب، لكنها لم تصمد وبعد سنتين أوقفت.

وأثناء عمله بالفتح طلب منه حسن البنا المساعدة في إنشاء جريدة أسبوعية لجماعة الإخوان المسلمين، وكان رأس مالهم لإصدار الجريدة جنيهان! وطلبوا من محب الدين أن يرأس التحرير الجريدة ويطبعها بالمطبعة السلفية، وقد قبل ذلك محب الدين فصدرت في سنة 1933م وبقي يرأسها ثلاث سنوات.

وقد واصل محب الدين الكتابة في العديد من الصحف والمجلات التابعة لجماعة الإخوان، فكتب في جريدة (الإخوان المسلمون) اليومية منذ صدورها عام 1946م، وفي مجلة الشهاب والتي أصدرها حسن البنا سنة 1947م، ومجلة (المسلمون) التي أصدرها سعيد رمضان سنة 1952م.

وفي سنة 1952م عين محب الدين رئيس التحرير لمجلة الأزهر بقرار من صديقة الشيخ الخضر حسين والذي أصبح شيخ الأزهر، وكانت افتتاحياته تعد الزاد للشباب المسلم الدارس في الأزهر كما يقول المستشار العقيل، وبقي يرأسها ست سنوات.

هذه كانت مسيرة محب الدين مع الصحافة محرراً وناشراً ورئيساً للتحرير وكاتباً، وهي مسيرة حافلة بالعطاء والبركة، وقد تميز أسلوبه بالسلاسة والمباشرة والبعد عن التعقيد والزخرفات اللغوية، وهو صريح وجريء في عرض أفكاره على القارئ، وهو شديد التمسك بمبادئه وشديد الدفاع عنها، ولا يجامل فيها أحداً، حرص على الوصول لأوسع شريحة من الناس ولم يقتصر على مخاطبة النخب، ولذلك كان يلجأ للكتابة بطريقة خطابية تخاطب القارئ بشكل شخصي.

ومقالات محب الدين تنوعت بين المقالات الحماسية للدفاع عن العروبة والإسلام، وبين المقالات الأدبية التي تذكر بعظمة الإسلام وحضارته ومآثر الأجداد، وبين المقالات التي تعالج الواقع وتقترح الحلول لها، وهي تحتاج أن تجمع من بطون المجلات ويعاد بثها في الناس فإنها تحوي خبرة ورؤية نحتاجها اليوم بشدة.

ولقد لخص محب الدين اهتمامه بالصحافة والتعليم فقال: “إنما أتينا من جانب المدرسة والصحافة، فهما اللتان كونتا رجالنا وجماهيرنا كما نرى، ولن نتقي شر الانحلال الذي نتوقع أن ينزل بنا، مالم تكن لنا مدارس وصحف مؤسسة على جلاميد من الإيمان بالهداية المحمدية لا تزعزها الزلازل”.

جمعية الشبان المسلمين

 تقدم معنا دعوة تيمور باشا المخلصين لمقاومة موجة التغريب والإلحاد، وذلك عبر إنشاء جمعية ومجلة، فكانت المجلة هي الفتح، وأما الجمعية فكانت جمعية الشبان المسلمين، والتي سعى تيمور باشا لترخيصها بما له من مكانة وشأن، ولكن التنفيذ والرعاية كان من نصيب محب الدين، حيث انتخب 12 طالباً جامعياً منهم العلامة عبد السلام هارون والعلامة محمود شاكر أبا فهر والعلامة عبدالمنعم خلاف، عملوا بصمت وسرية حتى استقطبوا 300 عضو من الجامعات، وذلك حتى يتجنبوا مهاجمة الكُتاب بالصحف الذين يعارضون المشروع الإسلامي، وبعدها أعلنوا عن تأسيس الجمعية سنة 1927م، ففوجئوا بها جمعية كبيرة لم يمكنهم عمل شيء ضدها.

وكان هدف الجمعية مقاومة الإلحاد والتغريب وشبهات المستشرقين، والدعوة لمكارم الأخلاق، والتعامل المرن مع الحضارة الغربية باقتباس النافع والمفيد، وتقديم البديل للشباب لقضاء وقت فراغهم في أنشطة رياضية مفيدة، وكان للجمعية دور ملموس في الشباب المصري، ومن أعضائها حسن البنا، قبل إنشائه جماعة الإخوان، وكانت مجلة الفتح بمثابة الناطق الإعلامي للجمعية فتنشر أخبارها وندواتها..

وقد امتنعت الجمعية عن العمل بالسياسة حتى تحافظ على نفسها، وتتمكن من الانتشار، ولذلك فتحت فروعا خارج مصر كان منها 20 فرعا في فلسطين، تعاون معها الشيخ عز الدين القسام في مدينة حيفا، وفتحت لها فروع في دمشق والهند والباكستان والبوسنة وأوروبا، حتى قدر عدد أعضائها بمليون عضو.

لكن تحولا طرأ على الجمعية أخرجها عن مقصدها، ويبدو أن ذلك كان بتأثير الاحتلال، وأصبحت تقتصر على الأنشطة الرياضية، وهو ما ساء محب الدين وأغضبه، إذ كان يهدف منها أن تكون المؤسسة الأولى للإسلام في مصر، تحتاج الجمعية لدراسة معمقة تستخرج عبرها وفوائدها، إذ أنها ظلمت ولم تعط حقها من الدراسة والبحث.

خلاصة خبرته في الدعوة إلى الله عز وجل

 كان محب الدين يرى أن الإسلام الصحيح لن ينتشر في عالم الناس إلا بثلاث خطوات:

1- تفرغ أهل العلم من الأزهريين والجامعيين لتتبع قواعد الإسلام واستقصائها وحصرها، وتحري فقه سلف الأمة لهذه القواعد، والتي سعوا بها وتنزيلها على واقعنا بفهم وعلم.

 2- العمل بذلك وتربية المسلم لنفسه على العمل بسنن الإسلام وقواعده في نفسه وبيته وأسرته ومحيطه.

3- الدعوة إلى ذلك بإخلاص وحسن نية وإتقان.

ولعل هذه الخطوات هي التي يعبر عنها العلامة الألباني بقوله: “التصفية والتربية”، وقد كان بينهما علاقة، ولذلك قام محب الدين بتقديم الطبعة الأولى من كتاب الألباني “آداب الزفاف”.

موقفه من غزو الشيعة لمصر

 برغم سلفية محب الدين واطلاعه على كتب ابن تيمية منذ نشأته إلا أنه لم يتعرض لنقد الشيعة في مقالاته لعدم وجود الداعي لذلك، لكن بعد أن قرر الشيعة غزو بلاد السنة عبر إرسال دعاة شيعة لمصر، كأبو عبدالله الزنجاني، ثم عبدالكريم الزنجاني، وثالثهم الشيخ محمد تقى القمي الذي أرسله المرجع الشيعي حسين البروجردي، وقام بتأسيس دار التقريب في القاهرة سنة 1366هـ، 1946م.

  رفض محب الدين فكرة التقريب وحاربها، ذلك أن محب الدين والشيخ الخضر حسين ناقشا أبو عبدالله الزنجاني في أسس التقريب والموقف من صحيحي البخاري ومسلم، فتبين له أنه شيعي جلْد جاء لنشر التشيع لا للتقريب، وذلك أن محب الدين كان ينادي بالتقريب بين أهل المذاهب في المواقف المشتركة لا تقريب المذاهب نفسها لاستحالة ذلك.

وركز على أن المشكلة هي في المذهب الشيعي الذي يحتوي على عقائد كفرية تطعن بالقرآن والكريم والصحابة وأمهات المؤمنين، وكان يحاجج من يقبل بدعوة التقريب بقوله: “لماذا لم يسعَ الشيعة لإنشاء دار تقريب في طهران أو قم أو النجف أو جبل عامل أو غيرها من مراكز الدعاية للتشيع”، وقد أعلن رأيه بصراحة ووضوح وكتب كتابه “الخطوط العريضة لبيان أسس دين الشيعة الإثنا عشرية”، وكتب مقالات رد فيها على قبول حسن البنا بمبدأ التقريب مع الشيعة.

الخاتمة

 بقي محب الدين يجاهد بقلمه وعلمه حتى الرمق الأخير، فقد توفي في المستشفى ومعه مسودات المجلد الثالث عشر من كتاب فتح الباري شرح صحيح البخاري، وذلك سنة 1389هـ، 1969م، فرحمه الله رحمة واسعة.

 —–

مراجع للتوسع:

1-   محبّ الدين الخطيب، حياته بقلمه، مطبوعات جمعية التمدن الإسلامي، 1979م.

2-   فهرس المكتبة السلفية سنة 1349هـ، المطبعة السلفية.

3-   محب الدين الخطيب أفكاره وجهوده في الإصلاح الإسلامي، سعد مناور، رسالة جامعية غير منشورة.

4-   قضايا الإصلاح والنهضة عند محب الدين الخطيب، رغداء محمد أديب زيدان، رسالة جامعية غير منشورة.

——–

 ** المصدر: الراصد، بتصرف يسير

مواضيع ذات صلة