الانفصام الدعوي (2 /5).. مع النفس

الحوار وقبول الآخر.. في أفكار فتح الله كولن

أ.د. الصفصافي أحمد القطوري

ولد محمد “فتح الله كولن” عام 1938 في ضواحي أرضروم بتركيا، ونشأ بطريقة يمكن القول عنها بأنها تنشئة مستقبلية مرتبطة -في الوقت نفسه– بالجذور، حيث كان بيت kolanالأب مفعمًا بالروح الإسلامية، وعلوم العربية والفارسية، وانصهر منذ نعومة أظفاره في بوتقة العلم والتسامح الإنساني، وتداخلت في تكوينه عوامل الدنيا والنظر إلى الآخرة؛ فأضحى نموذجًا لهذا التداخل وعبَّر عنه في العديد من كتاباته، وكانت تركيا لم تتخلص بعد من أوجاع انهيار الدولة العثمانية؛ فدرس “فتح الله كولن” التراث الإسلامي ولم يهمل -في الوقت نفسه- دراسة العلوم الوضعية والفلسفة، وتعرف على “رسائل النور” وتأثر بحركة طلاب النور تأثرًا كبيرًا.

الحوار مع النفس

بدأ “كولن” عمله الدعوي في أزمير متنقلاً؛ حيث مكنته هذه المرحلة من الطواف في جميع أنحاء غربي الأناضول، ونظم مخيمات للشباب عام 1970 لتربية النفوس، وإرساء قواعد التسامح بين الشباب، ثم اعتقل في عام 1971 لمدة ستة أشهر قضاها في الحوار مع النفس، والعودة إلى الذات.

وبعد إطلاق سراحه ظل بضواحي “إزمير” –مدينة في غرب تركيا- حتى عام 1980، وكان يرتب المحاضرات ويعقد الندوات والمجالس الخاصة دون انتظار أي نفع ماديّ، أو رغبة في الشهرة أو المناصب الدنيوية، وكان لُبُّ دعوته في هذه المرحلة هو العودة إلى الذات والجذور، بمعنى ربط ديناميكية الماضي الروحية والمعنوية والأخلاقية بالنسيج الإنساني والثقافي، دون إهمال الآخر أو إبعاده، فلا يفهم ذلك على أنه بقاء الإنسان محصورًا داخل نموذجه الخاص، أو منغلقًا على نفسه تجاه العالم الخارجي.

لم يكن “فتح الله كولن” ضد الاحتكاك بالغرب إنما كان ضد الأخطاء التي تقع عند النظر إلى الآخر الغربي وتقييمه، فقد كان ضد الأخطاء التي تحدث عند الاحتكاك به، فهو يدافع عن ضرورة استيعاب الواقع وفهمه، وأن يكون العقل والمنطق هما الحكم في كل الأمور، وبالقدر الذي يسمح به نسيج المجتمع التركي.

وهو يرى أن الحضارات التي تحركت وفقًا لديناميكيتها وحافظت على عناصرها؛ هي التي استمرت ووصلت إلى يومنا الراهن، وأن الحضارة الغربية الحديثة هي واحدة من هذه الحضارات، ولم يكن من الممكن للغرب أن يأخذ هذه العناصر من حضارة أو ثقافة أخرى، فالحضارات لا يمكن أن تطابق بعضها بعضًا، غير أن كل حضارة تحتوي على عناصر يمكن أن توفر لها التواؤم النسيجي مع الحضارات الأخرى، وأن المهم هو تحديد هذه العناصر وامتلاك القدرة على إمكانية تلقيح بنيتها الذاتية وتطعيمها بها، وكما يتصرف بعداء ضد التقليد الأعمى للغرب، والذي يتم بدون علم أو شعور أو إدراك؛ فإنه يؤكد –بالدرجة نفسها– على أن الانغلاق على الذات والرفض الكامل للغرب لا يُعد تصرفًا إيجابيًّا.

إن النمط الذي يقدمه كولن ويعرضه في قضية العودة إلى الذات والحوار، هو تعبير عن ديمومة التجديد والسير في مقدمة الزمان من داخل الارتباط بالقيم الأصيلة التي تجعل الإنسان إنسانًا.

الاهتمام بالتعليم

كان “فتح الله كولن” -في الوقت الذي يتابع فيه نشاطه الوعظي- قد أعطى أهمية للتعليم وتربية الشباب؛ فبدأ في تنظيم الدورات التعليمية والمخيمات الصيفية، وأكد على أن المرحلة التي تمر بها البلاد تستوجب بناء المدارس، وأن المدرسة تفضل الجامع في خدمة المجتمع، وتَحَمَّل -في سبيل ذلك- الكثير من النقد إلا أنه لم يمل من شرح هذه المشروعات في المجتمعات المحافظة.

وشيئًا فشيئًا قامت الفئة التي التفت حوله، وضمن إطار القوانين المرعية في تركيا بإنشاء العديد من المدارس والأقسام الداخلية، دون الدخول في أي أيدلوجيات فكرية أو سياسية، بل كان وما يزال يهدف إلى رفع المستوى التعليمي والتربوي للكتل الاجتماعية، وعدم ترك الأعباء كلها على كاهل الدولة، ونجح في أن يجعل المدارس الابتدائية والإعدادية والثانوية -التي ظهرت من خلال التيار التنويري الذي يرعاه– تشارك في مسابقات الأولمبياد العالمي في مجال العلوم والفنون، سواءً داخل تركيا أو خارجها، وبدأت هذه المدارس تُظهر تفوقًا ملحوظًا في العالم الخارجي المتقدم، مما جعلها محطّ أنظار كل فئات المجتمع، ودفع بالقائمين عليها إلى التوسع بها، والانتقال بها إلى العالم الخارجي، وبخاصة في الدول الإسلامية التي استقلت حديثًا عن الاتحاد السوفيتي السابق، بل وصلت هذه المدارس إلى كل بقاع المعمورة من كازاخستان حتى جنوب أفريقيا وتنزانيا والسودان والمغرب، وقد تأسست هذه المدارس على ضرورة المزج بين الأخلاق والعلوم الحديثة، وفاق عددها على مستوى العالم الخمسمائة مؤسسة، يتصدى لإدارتها والتدريس فيها ذلك الجيل الذي تربى على مبادئ التسامح وقبول الآخر والتعويل على السلوك الأخلاقي، وكانت مفاجأة للتيار المعارض أن قبل “محمد فتح الله كولن” إشرافَ وزارة التعليم في تركيا على هذه المؤسسات التعليمية.

التسامح

ورغم أن عقدَي السبعينيات والثمانينيات شهدا أحداثًا خطيرة في مضمار الإرهاب، فضلا عن الصراع بين معظم التيارات السياسية والفكرية السائدة في تركيا، فقد نجح “فتح الله كولن” في جعل تيار المصلحة الوطنية هو الأعلى، وزاد من وتيرة التركيز على جوانب الحوار والنقاش الهادئ، وانطلاقًا من القيم الإنسانية التي ارتبط بها “فتح الله كولن”، عمل على أن يبث فيمن حوله فكر التسامح وقبول الآخر، وكان كثيرًا ما يردد على مسامعهم “افتح صدرك للجميع.. افتحه بأكبر ما تستطيع.. ليكن صدرك كالبحر.. لتمتلئ بالإيمان وبمحبة الإنسان.. صفق للأخيار بسبب خيرهم وفضلهم، كن ذا مروءة تجاه المؤمنين.. كن ليّنًا تجاه المنكرين إلى الدرجة التي تذيب معها أحقادهم ونفورهم، وكن دائمًا كالمسيح عليه السلام في سماحته وفي أنفاسه التي تحيي كل شيء.. لا تنس أنك من أتباع رسول مرشد عظيم على علاقة وطيدة مع السماء لصالح البشرية جمعاء”.

التسامح عند “كولن” ركن شامخ في بناء الحضارة والمدنيّة، فليست المدنية غنى وأرستقراطية ومظاهر فارغة وإشباعًا للرغبات الجسدية، أو انغماسًا في الشهوات.. بل المدنية هي غنى النفس ورهافة في الروح وقبول الآخر والاعتراف بحق الآخرين في الحياة، وتقبلهم وعدم الضيق بهم.. في الماضي لم تتحقق الحضارة ولا المدنية إلا عندما سار العلم جنبًا إلى جنب مع الأخلاق.. إن المدنية الغربية التي لم تعترف بفضل الآخر وحسبت كل شيء محصورًا على العلم بقيت مدنية مشلولة، أما المدنيات الشرقية المتسامحة فلم تتأخر إلا عندما انعزلت عن العلم وتقوقعت على نفسها، وهو يرى أن مدنيّة المستقبل ستكون مزيجًا من العلم والصناعات الغربية مع فلسفة العقيدة الدينية والخلقية المتسامحة للشرق.. والمدنية سوف تنمو وتترعرع بهذا المزيج، ويجب أن يكون هذا المزج هو الأساس الذي تقوم عليه المؤسسات التربوية والتعليمية.

إن المدنية التي لا تستند إلى الفضيلة والتسامح، ولا تتغذى من العقل ومن الضمير لا يمكن أن تكون وسيلة لسعادة الإنسانية، وهي عنده لا تعمل إلا لخدمة بعض الأغنياء وبعض أرباب الأهواء، وكان وما يزال يحذر من اعتقاد أن المدنيّة هي التقدم في العلوم الطبيعية أو امتلاك الإمكانات والوسائط الحديثة، والعيش في المدن الكبيرة ذات الشوارع الفسيحة والبنايات المرفهة، فأصحاب العقول المؤمنة يدركون أن هذه الأمور ما هي إلا جزء من المدنيّة وليست المدنيّة ذاتها، ولكي يصبح أفراد المجتمع مدنيّيّن؛ علينا نحن أن ننمي بذور الخير الموجودة في جوهر الإنسان المجتمعي تدريجيًّا.

وبهذا المزج بين التراث العرفاني والتسامح مع الآخر والتربية والتعليم التي تعتمد الأخلاق منهجًا سلوكيًّا كما تعتمدها منهجًا تعليميًّا، وبهذا الدمج بين عناصر المدنية ومفرداتها وأسس الحرية ومعطياتها، انطلق “محمد فتح الله كولن” إلى توسعة دوائر الحوار مع الآخر المحليّ، والآخر الخارجيّ.

الحوار الداخلي والخارجي

هالَ فتح الله “كولن” الدماء التي أريقت بسب الصراع الفكري والإرهاب الأثيني الذي شمل تركيا في السبعينيات والثمانينيات، وانطلاقًا من تأثره برسائل النور لبديع الزمان النورسي -والتي تجيز في إحدى مقالاتها الحوار بين الإسلام- بدأ ينادي برأب الصدع بين التيارات الفكرية أولاً، ووصل إلى مرحلة متقدمة من إرساء التفاهم بين التيارات الإسلامية التي تعمل بعيدًا عن السياسة، وكذلك التواؤم المحلي بين العلويين والسنَّة داخل البلاد.

ثم بدأت دعوة الشخصيات البارزة في التيارات الفكرية والأكاديمية والإعلامية إلى مناقشة المشكلات الاجتماعية والفكرية، التي تكمن وراء هذا العنف والتطاحن والتصارع الفكري، وبدأ ينضم إلى هذه اللقاءات والاجتماعات بعض من رجال الأعمال الذين استهوتهم فكرة حقن الدماء بالحوار الودي، ثم تولد عن ذلك أن تصدى بعض الأكاديميين والمفكرين ورجال الصحافة لتأسيس منتدى فكري هو “منتدى حوار أبانت” (Apant Dialogue Platform) لبحث كل ما يتعلق بقضايا الفكر والاجتماع والاقتصاد بشكل علمي من خلال برنامج للحوار، وكادر قادر على المناقشة بعقلانية وهدوء دون صخب إعلامي أو زَجٍّ بقضايا السياسة الخلافية.

وقد تصدى تيار “فتح الله كولن” لهذا العمل في بادئ الأمر، وعندما زاد عدد المنضمين والراغبين في المشاركة في الحوار كان لا بد من عملية تنظيمية وتمويلية، ولهذا نشأ “وقف الكتَّاب والصحفيين” عام 1994 الذي وجد أنه من الوفاء منح الأستاذ “كولن” الرئاسة الشرفية لهذا المنتدى، ومن ثمَّ تغير نمط الحوار وبدأ يأخذ شكلا علميًّا عقلانيًّا متعدد المراحل والمستويات.

تعرض “كولن” لأزمة قلبية سافر على أثرها للولايات المتحدة للعلاج، وفي عام 1997 التقى كردينال نيويورك “جون أوكونور”(John O’connor)  الذي يُعدّ من أهم الأسماء في العالم الكاثوليكي، وأعرب أوكونور عن أنه يتابع عن كثب مساعي كولن من أجل التقارب والتسامح بين الحضارات والأديان، ونتج عن هذا اللقاء دعوة الأستاذ “كولن” إلى زيارة بابا الفاتيكان التي جرت في عام 1998، وانطلقت المنتديات من بعدها تُعقد في مناطق مختلفة، ودوائر الحوار تتسع وتنتقل من تركيا إلى أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية.

المصدر: مجلة حراء التركية.

مواضيع ذات صلة