الانفصام الدعوي (2 /5).. مع النفس

حول الجذور الفكرية لأزمتنا الأخلاقية (10)

د. حازم علي ماهر

في البدء كان الإنسان!

نواصل اليوم حديثنا عن المشروع الفكري الحضاري للمفكر الجزائري مالك بن نبي، باعتباره مشروعًا لاستعادة عزة المسلمين الغائبة، وقد أشرنا فيما سبق إلى أن القضية الأساسية التي ركز عليها بن نبي ونَظَّر لها، هي قضية بناء الحضارة، حيث جعل النهوض الحضاري هو الهدف الرئيس الذي يتعين على الأمة –أفرادا ومجتمعات- السعي إلى تحقيقه، وهو أمر إيجابي؛ أن تجعل الهدف دومًا هو البناء والعمران واكتساب القوة الداعمة للعزة الحضارية، لا الهدم ولا التفرغ للإحساس بالعجز والإحباط اللذين يعززان الاستضعاف والاستكانة والاستلاب.

ولأجل النهوض كان عرض مالك للمفاهيم والقضايا غالبا عرضًا وظيفيًا، بما في ذلك مفهوم الحضارة نفسه، والتي عرفها مالك بأنها: “جملة العوامل المعنويّة والماديَّة التي تتيح لمجتمع ما أن يوفِّر لكلِّ عضوٍ فيه جميع الضمانات الاجتماعية اللازمة لتطوُّره”، ثم عاد وعرفها بأنها: “جملة العوامل المعنوية والمادية اللازمة لتنمية الفرد” (مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي، ص42، 43).

ويبدو أن هذا الأمر هو الذي جعل مالك بن نبي يركز على كيفية علاج المشكلات التي تعيق الفرد والمجتمع عن “الإقلاع الحضاري”، وخصوصًا مشكلة الإنسان الذي يعد هو العنصر الأهم من عناصر الحضارة، وهو الذي يتحكم في العنصرين الآخرين لها؛ التراب والزمن: “فإنني أرى أن توضع (مشكلة الإنسان) في الرتبة الأولى لأنه هو الذي يوجه الأشياء ويصنع الحضارة (…) فإذا تحرك الإنسان تحرك المجتمع والتاريخ، وإذا سكن سكن المجتمع والتاريخ” (تأملات، ص129، 202).

وكان أكثر ما يشغل مالك بن نبي في دراسته بالنسبة لمشكلة الإنسان عالم أفكاره، وكيف ينقذه من طغيان الأشياء أو الأشخاص على وعيه وعقله، ولذلك فقد خصص كثيرا من مؤلفاته وكتاباته لمعالجة “مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي”، ودراسة “مشكلة الثقافة”، ولفت الانتباه إلى قضية “الصراع الفكري في البلاد المستعمرة”، وغيرها من “القضايا الكبرى”، مستهدفًا تحديد “وجهة العالم الإسلامي”، وبيان أسس “ميلاد مجتمع” متحضر، وركز على أمله في النهوض الحضاري لمحور طنجة- جاكرتا، فطرح “فكرة الأفريقية الأسيوية”، وكذلك تبنى “فكرة كمنويلث إسلامي”، بعد أن حدد من قبل “شروط النهضة”، مبرزًا دور “الظاهرة القرآنية” والعقيدة الإسلامية بصفة عامة في تحقيق النهضة المنشودة.

إنسان ما بعد الحضارة

ويحسن عرض بعض أهم أفكاره وأطروحاته في مجال علاج مشكلة “إنسان ما بعد الحضارة”، وهو اللفظ الذي أطلقه مالك على المسلم المعاصر له (ولنا)!

الطرح الأخلاقي والاجتماعي للإسلام: تناول مالك دور الإسلام في تحرير الإنسان وتحريكه لبناء الحضارة، مستنكرًا بعض الأفهام والمشروعات التي من شأنها أن تنحرف بهذا الدور عن مساره الصحيح، مثل المتاجرة به في سوق الانتخابات وكأن: “الإسلام نفسه أصبح لافتة انتخابية” (العفن، ص153)، وذلك في وقت تئن فيه الشعوب تحت وطأة مصيبتي الاستعمار والقابلية للاستعمار، داعيًا إلى فهم جديد للسياسة في العالم الإسلامي يقوم على تحقيقها للإنجازات الحضارية أكثر مما تعتمد على انتخابات يتحكم المستعمرون –وأعوانهم- في مسارها ونتائجها: “فالسياسة ليست ما يقال بل ما ينجز. وللأسف كان علينا أن ننتظر طويلا حتى ظهور القضية الفلسطينية، لنرى تشكيل (روح سياسية) في العالم الإسلامي لا تطرح المشكلة الانتخابية كمشكل أساسي ولكن تتحدث عن مشاكل الإنسان والتراب والزمن، سواء عبرت عنها بهذه الكلمات أو بعبارات أخرى أقل منهجية ونسقا” (العفن، ص95).

ولذلك كان مالك بن نبي يفتخر بأنه لم يقل للناس: انتخبوني وناموا في سلام: “على العكس، كنت أقول لهم لا تنتخبوا أحدا، أفيقوا وانهضوا من سباتكم” ( العفن، ص153)!

وأراد مالك بن نبي بذلك أن يرسم الدور الصحيح للإسلام للتأثير في السياسة عبر مداخل أخرى غير الانتخابات، ومن ضمنها المدخل الروحي/الأخلاقي/الاجتماعي، والذي يتميز بأن ميدانه الحقيقي هو الإنسان ومجتمعه لا السياسة بمعناها المعاصر: “فقوة التماسك الضرورية للمجتمع الإسلامي موجودة بكل وضوح في الإسلام، ولكن أي إسلام؟ الإسلام المتحرك في عقولنا وسلوكنا والمنبعث في صورة إسلام اجتماعي!” (مشكلة الثقافة، ص81).

ولذلك دعا مالك إلى إعادة النظر في أسلوب تعليم العقيدة الإسلامية والقرآن الكريم، الذي يقوم على الحفظ والتلقين فقط، مطالبًا بأن يعتمد على غرس إشعاعهما في النفوس بحيث تتحول إلى سلوك مؤثر في الحياة، ودافع للنهوض الحضاري: “فالمسألة لا تتمثَّل في تلقين أو في إعادة تلقين المسلم عقيدتَه؛ ولكنها تتمثَّل في إعادة تلقينه استخدامها وفعَّاليتَها في الحياة”(القضايا الكبرى، ص123).

فعالية الأفكار والمنطق العملي: الواقع أن حث مالك على تفعيل العقيدة الإسلامية في نفسية المسلم وفي سلوكه الأخلاقي والاجتماعي يمثل جزءًا من دعوته إلى فعالية الأفكار النهضوية بصفة عامة، لتتحول إلى أنشطة عملية واقعية تبرئ المسلم من كراهيته البغيضة للمنطق العملي في التفكير: “إن الذي ينقص المسلم ليس منطق الفكر، ولكن منطق العمل والحركة، فهو لا يفكر ليعمل، بل ليقول كلاما مجردا بل أكثر من ذلك، فهو أحيانا يبغض أولئك الذين يفكرون تفكيرا مؤثرا، ويقولون كلاما منطقيا من شأنه أن يتحول في الحال إلى عمل ونشاط” (شروط النهضة، ص96).

وللأسف فإن هذه الكراهية للمنطق العملي في التفكير عانى منها كثير من الإصلاحيين كذلك، حتى أن أطروحاتهم تكاد تعتمد على البلاغة الخطابية وحدها، وهذا ما لاحظه مالك حين كتب يقول: “كانت الآية الكريمة {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم} تتداول في الأوساط الإصلاحية، غير أن الحركة الإصلاحية تعطي انطباعا بأنها تسعى لتجسيد هذا التغيير الأساسي بوسائل البلاغة العربية فقط. فقد كان الأمر يبدو لنا وكأنه إصلاح النحويين. فالمشكل الإنساني بقي كاملا دون تغيير وحتى في معطياته الآنية والبديهية كالجهل والمجاعة” (مذكرات مالك بن نبي: العفن، ص108).

ولذلك فقد كان مالك بن نبي يمقت هذه الذهنية التي تكاد تعتمد على “الخطابة الرنانة الطائرة” وحدها في الإصلاح، ويقرر أن إصلاح رجل واحد خير من إلقاء خطبة رائعة تدهش المستمعين، ولكن “ذهان السهولة” يدفع كثير من المصلحين إلى الخيار الثاني: “إن من الصعوبة الجمة أن تُكوِّن رجلا واحدًا من أن تدهش آلاف المستمعين وتجذب اهتمامهم بالخطب الوطنية (وجهة العالم الإسلامي، ص148، والعفن، ص112).

فما الذي اقترحه مالك للتخلص من هذا العيب الخطير؟

ذلك هو موضوع المقال المقبل.

—-

(ينشر بالتعاون مع موقع الباحث عن الحقيقة).

 

مواضيع ذات صلة