الانفصام الدعوي (2 /5).. مع النفس

الإلقاء.. مهارات خفية (1-ومضات البدء)

ماجد بن جعفر الغامدي

مهارة الإلقاء

الإلقاء مهارة يمكن اكتسابها بالتدريب

حتى يكون حديثك عامراً له أنداء وأفياء.. وظلال وأبعاد.. وحتى يكون كلامك مؤنساً مشجياً.. منعشاً مشوقاً.. وحتى يكون قولك مطرباً مغرياً.. خفيفاً شائعاً..

وحتى يكون أسلوبك لطيفاً شريفاً.. باسماً مبهجاً..

وحتى يكون موضوعك عليه طلاوة.. وله حلاوة.. وفيه نضارة.. وحتى تؤثر في الآخرين فتبذر فيهم التفاهم والتكاتف.. فتجني التضامن والتعاون..

وحتى تكون كذلك بل أكثر.. انطلق معي أخي المتميز المبدع في هذه الأسطر حتى نجول ونصول ونتعلم مهارة المبدعين المتميزين (أنت بالطبع أحدهم) مهارة العظماء.. وصنعة الأبطال مهارة الإلقاء الفعّال المثمر على دراسة منهجية تركّز على الجوانب العملية أكثر.. وبعد أن تستمتع بهذا الموضوع وتنزل ما تعلمته على واقعك وتمارس وتجرّب وتحاول مرةً وأخرى وثالثة حتى تتقن وتتجاوز حدود الإبداع ستعلم مدى ما كنت تحتاجه إلى هذه المهارة المهمة بل واللازمة للجميع والتي من خلالها

ستتعلم الكثير من المهارات وستتذكر مباشرة قول دوسكو درو موند حين قال: ” لو قُدّر لي أن أفقد كل مواهبي وملكاتي وكان لي حق الاختيار في أن احتفظ بواحدة فقط.. فلن أتردد في أن تكون هذه هي القدرة على التحدث لأنني من خلالها أستطيع أن استعيد البقية بسرعة”.

وأيضا ستشعر من خلال ممارستك الدائمة للإلقاء بقول الخطيب المشهور (زج زجلر):

“سواء رضينا أم أبينا.. فإن الذين يُحسنون الحديث أمام الناس يعتبرهم الآخرون أكثر ذكاء.. وإن لديهم مهارات قيادية متميزة عن غيرهم”.

إذن أخي هي ليست مهارة عادية بل منها السحر والبيان وكما في صحيح البخاري عن ابن عمر رضي الله عنه قال: “قدم رجلان من المشرق فخطبا فعجب الناس لبيانهما فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن من البيان لسحرا”

الخطابة في الإسلام

في لندن يزدحم الناس حول الخطباء في الركن المخصص لذلك في حديقة ((هايدبارك)) فإذا وقف قسيس ليخطب لا يظفر، إلا بعدد قليل جداً من المستمعين..ويرجع ذلك إلى أن خطبهم لا تعدوا أن تكون أحاديث عن حياة المسيح مأخوذةً عن الأناجيل أو تكون من مطالعات في العهد القديم،أو بعض التعاويذ والترانيم..إلى غير ذلك مما هو معروف للناس، وقد سمع مراراً وتكراراً وأصبح لا يَهزُّ المشاعر ولا يلمس الوجدان.

ومقارنة بالمثال السابق.. فإن الخطابة في الإسلام لها مبادئ وأصول قامت عليها وعلى سبيل المثال خطبة الجمعة وما تتمتع به من مميزات فجميع المسلمين يحضرونها ويجلسون لاستماعها فالكل آذان صاغية للخطيب وبها يكون التوجيه فهي ليست مأخوذة من أناجيل مكذوبة..أو ترانيم خادعة..بل هي قانون حياة..ومنهج عمل..مدعمة بخير كلام ليس فيه من التحريف وليس من كلام الناس بل من كلام رب الناس “ومن أحسن من الله قيلاً”.

هل يمكن تعلم الخطابة والإلقاء؟

الخطابة صعبة والإلقاء مستحيل..وأنا سيء في حديثي.. فهل يمكنني أن أجيد فن الإلقاء؟.

أقول: وبكل سهولة.. تستطيع أن تتعلم الإلقاء.. ولا يعني عزوفك أصلاً عن إلقاء الكلمات أنك لن تستطيع إجادتها، أو أن إخفاقك في موقف سابق يجعلك تصد عن ذلك، بل انظر بإيجابية واعلم أنك قد استفدت من موقفك السابق وتعلمت منه التجارب والخبرات حتى تجعلك تتقن هذا الفن، يقول إيمرسون: “إن جميع المتكلمين العظماء كانوا متكلمين سيئين في البداية”.

اعلم أن: القدرات.. يصنعها الإنسان، والمهارة.. يكتسبها ويتعلمها الإنسان.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: “إنما العلم بالتعلم.. وإنما الحلم بالتحلم”.

فالإلقاء والخطابة علم وأمر يمكن للإنسان أن يتعلمه إذا اتبع قواعده وسار على نهجه وجلد على مراسه.

فهذا واصل بن عطاء – أحد أئمة المعتزلة – كان لديه لثغة في حرف الراء.. فحاول أن يستقيم لسانه.. فلم يستطع ورغم ذلك فلم يترك الخطابة بسبب هذه اللثغة فما كان منه إلا أنه كان يخطب من غير حرف الراء فأصبح من أوائل الخطباء وأشهرهم .

والآن وحتى نبحر في هذا الفن الرائع الجميل.. فإنه من الأفضل أن نتطرق إلى أمور كثيرة تتعلق باللإلقاء.. وحتى تكون دراستنا أكثر منهجية.. وتعلمنا أكثر إتقاناً.. فسنتعرض إلى ما يجب أن يتحلى به الخطيب من صفات وكذلك قضية التحضير فهي ملازمة تماماً للإلقاء ومرتبطة به تماماً ولا يمكن فصل أحدهما عن الآخر بمستوى إتقان التحضير يكون الإبداع في الإلقاء، وأيضاً التدرب قبل الإلقاء،

وكذلك ما يمكن فعله عند الخوف والارتباك وبعد هذا وذاك نشرع في ذكر المهارات الإلقائية والفنون الخطابية .

صفات الخطيب المتميز

1- ثقافة الخطيب: وذلك بالإطلاع الجيد على علوم القرآن والسنة والمعرفة بفنه الذي يتحدث فيه..وإلا كان مناقضاً لنفسه فسيتضح ذلك للناس سريعاً.. وكما قيل: “كل إناء بما فيه ينضح” فالخطيب المميز هو أولاً شخص مميز في ذاته..فارفع من ثقافتك وحسن من أدائك وكن جاداً في إنجازك.

2- موافقة القول للعمل: وذلك بالصدق في حديثه وعاطفته..وصدقه في علاقته مع ربه وتطبيقه لما يقول. {يا أيها الذين ءامنوا لم تقولون ما لا تفعلون * كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون}. وكما في الحديث المتفق عليه “يؤتي بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتاب بطنه فيدور بها كما يدور الحمار في الرحا..فيجتمع إليه أهل النار..فيقولون: مالك يا فلان ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فيقول بل كنت آمر بالمعروف ولا آتيه وأنهى عن المنكر وآتيه”.

يا أيهـا الـرجـل المعـلم غـيـره *** هـلا لنفسك كان ذا التعلـيم

 تصف الدواء لذي السقام وذي الضنى *** كيـما يصح به وأنت سقيـم

3- دراسة علوم اللغة: فلا يحسن بالخطيب أن يجعل المرفوع منصوباً والمنصوب مجروراً.. والمجرور مرفوعاً.. هذا بما يتعلق بالنحو.. وكذلك إلمامه الجيد بالتراكيب اللفظية.. وعلوم المعاني.. وامتلاك مهارة لغوية تبنى لديه معجما واسعا من المفردات.. يزوده بقدرة فائقة على التعبير عن المعنى بأروع طريقة وأبدع أداء.

4- الثقة بالنفس: عندما يكون الخطيب رابط الجأش لا شك أنه سيكون أكثر وصولاً إلى قلوب وعقول الجمهور..وكذلك يبدع أكثر فيما يريد إيصاله من رسالة.

5- الأمانة العلمية: عزو المعلومات إلى المصادر والمراجع فهذه أمانة أمام الله سبحانه تعالى .

مرحلة ما قبل الإعداد

1- الإخلاص:

صحيح أن العمل الجاد يحتاج إلى التعب والجهد ولكنه يحتاج قبل كل ذلك إلى الإخلاص لله تعالى.. والمثل الرائع يقول: “قل لمن لا يخلص لا يتعب” فما فائدة العمل إن أريد به غير وجه الله تعالى نعم.. لن يكون له أي تأثير لا على المتكلم ولا حتى على المستمعين.. إن لم يكن هناك إخلاص ((فرب عمل كبير تصغره النية.. ورب عمل صغير تكبره النية” فالخلاص في الإخلاص . .ومما يعين على الإخلاص كثرة الدعاء بأن يجعل الله العمل صالحاً متقبلاً خالصا له وحده..وأن يجعل له بالغ الأثر في الآخرين.

2- ما قبل الإلقاء:

الجمهور: يجب على الخطيب أن يتعرف على جمهوره فما القيم والمبادئ التي يحملونها؟ وما مدى أهمية هذا الموضوع لديهم؟ وما الذي يريدون معرفته ؟ وما هي المشاكل التي تواجههم فيه؟ لأن القاعدة تقول: ((شكل حديثك حسب جمهورك”. وكذلك يجب على الملقي أن يعرف كم عدد الحضور التقريبي فإن كان جمهور صغير (أقل من 25 ) شخصاً فيعلم الملقي حينئذ أن الانتباه أكثر فالأمثلة أكثر والأسئلة والمناقشات ستكون مباشرة مع الجمهور و سيقوم الملقي المتميز بالاتصال بالجميع عن طريق العين.

أما إذا كان الجمهور كبيراً أكثر من “25 شخصاً)) فسيحدث السَرَحان والهمس مع الجار والتشتت في الانتباه فعند ذلك يقوم الملقي بالربط والتلخيص وتكرار النقاط المهمة ليحافظ على تركيز الجمهور وانتباهه وكذلك مما يجب أن يعرفه الملقي قبل إلقائه: الوقت المتاح له والمكان الذي سيلقي فيه..فإنهما سيساعدانه على القيام بمهمته .

3- الهدف:

للأسف أننا في أوقات كثيرة نتحدث بدون أي هدف فلماذا لا يكون لدينا أهداف صغيرة تخدم هدفاً مرحلياً تصب أخيراً في هدفنا الأخير.. من خلال ما سبق نستطيع أن نحدد الأهداف التي يمكن تحقيقها من خلال إلقائنا..فكيف يصوغ الملقي هدفه؟ إليك هذه الطريقة العلمية المجربة التي يذكرها الدكتور طارق السويدان في كتابه (فن الإلقاء الرائع) فيقول: (اكتب جملة من 25 كلمة أو أقل تشرح موضوع حديثك مرتبطاً بهدفك .وإذا كنت أنت غير واضح في هدفك فكيف يستطيع المستمع أن يتبين هذا الهدف؟ ) فعلمية الهدف تعد عملية سهلة وتجعل كل شيء بعدها ينساب سهلاً ويسيراً فأبدأ بها أولاً وستجد كل شيء بعدها سيغدو سلساً، فلعل هدفك الرئيسي هو أن تعرّف الجمهور على شيء جديد .وتجعله يفكر فيه.. ويشعر به ويتذكره دائماً..فكيف ستصل لهدفك ؟ فكر في ذلك جيداً !!. يقول دايل كارينجي: إن التحضير يعني التفكير والاستنتاج والتذكر واختيار ما يعجبك وصقله وجمعه في وحدة فنية من صنعك الخاص .

وموعدنا مع الحلقة الثانية وانتظر فيها: كيف تعد وتحضر موضوعاً ناجحاً، وما هي المفاتيح الست لاختيار العنوان الجذّاب، ونختم بأشكال التحضير المختلفة وما هو أفضلها .

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

_____

المصدر:  منابر الدعوة.

مواضيع ذات صلة