القائمة الرئيسية
 الانفصام الدعوي (2 /5).. مع النفس

شهوة الشباب والتناول السلبي

عادل مناع

لا شك أن قضية الشهوة تستحوذ على مساحة عظيمة من اهتمامات الشباب في عصر تموج فيه الفتن، Smoking fistوتشرئب فيه عوامل الفساد.

وهذه الأهمية تنعكس -لا ريب- على حقل الدعوة والتربية؛ إذ إن جهد المربين ينصرف أكثر ما ينصرف إلى الشباب وتربيتهم على الصلاح والعفة والاستقامة، وذلك بعد أن تأصَّلت القناعات التامة بضرورة التربية الشمولية المتكاملة التي تفرضها متطلبات الإصلاح.

إطلالة على واقع المربين

غير أن كثيراً من المربين قد سلكوا مسلكاً غير مُرضٍ في تناول هذه القضية مع الشباب، ففي الوقت الذي يهمِّش فيه بعضهم هذه القضية ولا يتعرَّض لها إلا بقدر ضئيل من الاهتمام؛ نرى على الجانب الآخر مِن المربين مَن يبالغ فيها ويضخم ويهول من شأنها بصورة تجعل الشاب يعيش تحت تهديد هواجس الشهوة في فزع، حيث إن المربي قد صوَّر له الشهوة على أنها وحش يصعب التصدي له.

وليس هذا فحسب، لكنه يجنح إلى المغالاة في الحديث عن وسائل التعامل مع الشهوة، فصارت المعالجة وكأنها خرجت من رحم المنهج الصوفي في التزكية بفرض رياضات غير مشروعة من أجل التخلية والتصفية.

هذا المسلك التربوي لا شك أنه يضعف الاستعدادات النفسية للتعامل مع قضية الشهوة؛ حيث يوهن نفس الشاب، ويفقده الثقة بقدراته على التعامل معها، ويعيش خائفاً مترقباً الوقوع في براثن الزلل بين الفينة والأخرى.

أضف إلى ذلك أن وسائل المواجهة التي يراها المربي على هذا النحو تُثقل كاهل الشاب بتكاليف يرى أنها مع صعوبتها غير كفيلة بالتصدي لذلك الوحش الكاسر، ما يعرِّضه للانفلات بعد أن يعلن استسلامه.

نحو منهج راشد

ربما كان من الأهمية بمكان طرحُ المنهج الأمثل في تناول قضية الشهوة باعتبارها أهم قضايا الشباب التي تحوز اهتماماتهم، ولسنا بحاجة إلى التأكيد على انفراد المنهج الإسلامي بعمق المعالجة لمثل هذه المسائل؛ لاستنادها إلى شريعة محكمة، ووحي لا يتطرق إليه الخلل، وهذا يعلمه الجميع، إلا أن ترجمته إلى إجراءات هو ما يتلبس بالشطط.

ودعونا نقول: إن هناك بعض المحاور التي يدور عليها تناول هذه القضية تمثل المنهج القرآني والنبوي لمواجهة إلحاح الشهوة، لعل من أهمها:

–       بيان حقيقة الشهوة للشباب دون مغالاة:

فالشهوة ليست سُبَّة، ولا هي ممَّا يعاب على المرء؛ بل لا بدَّ من تصويرها للشاب على حقيقتها بأنها أمر فطري، وهو ما قرره القرآن الكريم: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ} [آل عمران: 14]، وفي ذلك يقول رشيد رضا – رحمه الله: “فإن الله تعالى ما فطر الناس على شيء قبيح، وكيف يكون حبُّ النساء في أصل الفطرة مذموماً وهو وسيلة إتمام حكمته في بقاء نوع الإنسان”[1]، فالفطرة والجبلة لا يحكم عليها، بل يحكم على ما تنصرف إليه من حق أو باطل.

ومن المناسب أن يفقه الشاب في محضنه التربوي حقيقة أن السيطرة على الشهوة وضبطها ليس بالأمر العسير، فكيف يأمر الله تعالى بالعفة وصون النفس عن تفريغ الشهوة في باطل ويكون ذلك عسيراً؟ فهذا منافٍ لقول الله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، وإنما تتمرد الشهوة على صاحبها وتطوِّعه لها حينما يعرض نفسه لدواعيها، وينأى بنفسه عن معالم الطريق الذي رسمه الشارع الحكيم للتعامل معها، فهذا ما يجعل الأمر بالنسبة إليه عسيراً.

–       تغيير الإدراك:

إدراكنا للأمور عبارة عن تصورات ذهنية لها، فكما يقول الدكتور إبراهيم الفقي – رحمه الله: (الخريطة ليست هي المنطقة)[2]، والمعنى أن الخريطة التي نراها لدولة أو مدينة ما ليست هي ذاتها الدولة أو المدينة، وإنما هي تصورنا الذهني لها.

كذلك ينبغي أن يفعل المربي مع الشاب في أمر الشهوة؛ تغيير إدراكه لها، وربما يُفهم المقصود من خلال حديث عائشة رضي الله عنها عندما سألها النبي صلى الله عليه وسلم عن الشاة التي ذبحوها: “ما بقي منها”، قالت: “ما بقي منها إلا كتفها”، فغيَّر النبي صلى الله عليه وسلم إدراكها لأمر النفقة قائلاً: “بقي كلها غير كتفها”، فما ظنته قد ذهب هو على الحقيقة ما ينفع.

وإذا سلطنا الضوء على المعالجة النبوية لقضية الشهوة لدى الشباب، نرى أمر تغيير الإدراك بوضوح في قصة ذلك الشاب الذي استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الزِّنى، فبينما أقبل الناس على الشاب بالزجر، أدناه النبي صلى الله عليه وسلم برفق وأجلسه قريباً منه، وقال: “أتحبه لأمك؟ قال: لا والله جعلني الله فداك. قال: ولا الناس يحبونه لأمهاتهم.. قال أفتحبه لابنتك؟ قال: لا والله يا رسول الله صلى الله عليه وسلم! جعلني الله فداك. قال: ولا الناس يحبونه لبناتهم.. قال أتحبه لأختك؟ قال: لا والله جعلني الله فداك. قال: ولا الناس يحبونه لأخواتهم.. قال أتحبه لعمتك؟ قال: لا والله جعلني الله فداك. قال: ولا الناس يحبونه لعماتهم.. قال أتحبه لخالتك؟ قال: لا والله جعلني الله فداك. قال: ولا الناس يحبونه لخالاتهم.. فوضع يده عليه وقال: اللهم! اغفر ذنبه وطهِّر قلبه وحصِّن فرجه. فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء”[3].

فبعد أن كان الحل في تصورات الشاب الذهنية لقضاء الشهوة هو الزِّنى، تغيَّر إدراكه وتبدلت قناعاته، بماذا؟ (لقد غير النبي صلى الله عليه وسلم إدراك الشاب بعد أن كان مركزاً على قضاء شهوته. أرشده النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن ينظر للأمر من زاوية أخرى؛ ألا وهي زاوية الأثر السلبي والإيذاء الذي يحدثه الزِّنى، سواء كان على المرأة التي يزني بها أو على أهلها، وبالتالي تغير سلوك الشاب)[4].

ومما يسيطر على الشاب حال ثوران شهوته الرغبةُ في قضاء وطره بأي وسيلة، فإذا اتضحت في تصوراته زوايا الرؤية الأخرى، فلا شك أنه سيكون عاملاً حيوياً في مواجهة إلحاح الشهوة، فمن ذلك:

– كل أنثى يريد أن يفجر بها هي بمنزلة الأخت أو الأم.

– قضاء الشهوة بالحرام أياً كانت الوسيلة إنما هو لذة وقتية لا تضاهي ما يعقبها من ألم وحسرة وندم وضيق صدر وهمٍّ يعتمل في النفس.

– الشهوة شيء فطري لم يحل الإسلام بين الإنسان وبينها إلا بما يهذبها ويضعها في إطار من الطهر والنقاء والعفاف.

– ليس قضاء الوطر الوسيلةَ الوحيدة للتخلص من ضغط الشهوة وإلحاحها، وإنما هناك وسائل أكثر نقاءً وطهراً لا يُتحمَّل بها تبعة.

– التركيز على تعلية البناء الإيماني:

إن من ينظر إلى المدرسة الصوفية للسلوك والتربية الإيمانية، يدرك بغير جهد أنها تقوم على مبدأ التحلية قبل التخلية، بمعنى أنها ترشد السالك إلى علاج الآفات أولاً حتى تكون نفسه مهيَّأة لتقبُّل الخيرات وزراعة الإيمان.

وهذه الطريقة (فيها من المشقة والعنت ما الله به عليم؛ إذ متى يستقيم للإنسان العلم بأنه تخلص من جميع آفات نفسه وأمراضها؟! وهذا عدا أنواع الرياضات البدعية المخالفة لسنة النبي صلى الله عليه وسلم)[5].

وأما مدرسة ابن القيم – رحمه الله – فهي الأقرب والأكثر اتباعاً لمنهاج النبوة، وفيها يكون الاهتمام بالتحلية والاهتمام بالبناء الإيماني، مع اللجوء إلى التخلية في أثناء المسير، فينشغل بقطع الآفة إذا عُرضت له مع استمراره في المسير إلى ربه.

يقول ابن القيم: “وسألت يوماً شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – عن هذه المسألة، وقطع الآفات والاشتغال بتنقية الطريق وتنظيفها، فقال لي جملة كلامه: النفس مثل الباطوس، وهو جب القذر، كلما نبشته ظهر وخرج، ولكن إن أمكنك أن تسقف عليه وتعبره وتجوزه فافعل، ولا تشتغل بنبشه، فإنك لن تصل إلى قراره، وكلما نبشت شيئاً ظهر غيره، فقلت: سألت عن هذه المسألة بعض الشيوخ، فقال لي: مثال آفات النفس مثال الحيات والعقارب التي في طريق المسافر، فإن أقبل على تفتيش الطريق عنها والاشتغال بقتلها؛ انقطع ولم يمكنه السفر قط. ولكن لتكن همتك المسير والإعراض عنها، وعدم الالتفات إليها، فإذا عرض لك فيها ما يعوقك عن المسير، فاقتله ثم امض على سيرك)[6].

وهكذا فإن الاستغراق في علاج تصدع العفة لدى الشاب والوقوف عندها دون اهتمام بتعلية البناء الإيماني؛ غير مجدٍ، فضلاً عن كونه ليس سبيل النبي صلى الله عليه وسلم في التربية على العفاف، ونستشف ذلك المعنى من حديث عبد الله بن مسعود أن رجلاً أصاب من امرأة يعني ما دون الفاحشة، فلا أدري ما بلغ غير أنه دون الزِّنى، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فأنزل الله سبحانه: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إنَّ الْـحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود: 114]، فقال: يا رسول الله. ألي هذه؟ قال: لمن أخذ بها[7].

فوجَّه النبي صلى الله عليه وسلم الرجل إلى الاهتمام بالجانب الإيماني، وتعلية ذلك الصرح حتى تقتلع الآفات التي تهتف به، فهكذا نور الطـــاعة يبدد ظلام المعصية، وفي هذا يقول ابن القيم – رحمه الله:

(اعلم أن أشعة لا إله إلا الله تبدد من ضباب الذنوب وغيومها بقدر قوة ذلك الشعاع وضعفه، فلها نور، وتفاوت أهلـــها في ذلـــك الـــنور قوةً وضعـــفاً لا يحـــصيه إلا الله تعالى، فمن الناس مَن نور هذه الكلمة في قلبه كالشمس، ومنهم من نورها في قلبه كالكوكب الدري، ومنهم من نورها في قلبه كالمشعل العظيم، وآخر كالسراج المضيء، وآخر كالسراج الضعيف.

ولهذا تظهر الأنوار يوم القيامة بأيمانهم وبين أيديهم على هذا المقدار بحسب ما في قلوبهم من نور هذه الكلمة علماً وعملاً ومعرفة وحالاً، وكلما عظم نور هذه الكلمة واشتدَّ، أحرق من الشبهات والشهوات بحسب قوته وشدته، حتى إنه ربما وصل إلى حال لا يصادف معها شبهة ولا شهوة ولا ذنباً إلا أحرقه)[8].

ومن أجل ذلك كانت وصية النبي صلى الله عليه وسلم للشباب: (يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وِجاء)[9].

ومن أجلِّ العبادات التي تُعلي من صرح الإيمان والتي ينبغي الاهتمام بالتوجيه إليها في المحاضن التربوية: الصلوات الخمس وأداؤها في أوقاتها في بيوت الله، والمحافظة على شروطها وأركانها وواجباتها وخشوعها، فإنها أعظم ما يتعبد به المرء.

ثم يكون التوجيه لقيام الليل، فهو زاد المسلم ليومه، ويقرِّبه من الله تعالى، فيعظم واعظ الإيمان في القلب فتكفُّ الجوارح.

على أنه تجدر الإشارة إلى أن التكاليف التعبدية يراعى فيها التدرج والتوسط، فلا ينبغي أن نثقِل المتربي بالتكاليف التعبدية للتخلص من أسر الشهوة وضغطها، فروح العبادة أهم من جسدها، وربما كان القليل المتقن خير من الكثير المستثقل.

–       غلق الأبواب:

ويقصد به سدُّ كلِّ باب تأتي منه دواعي الإثارة، ونجملها فيما يلي:

– التوجيه إلى غضِّ البصر، وأهميته، وفوائده، ومغبة إطلاقه في الحرام.

– التوجيه إلى دفع الخاطر وسيلةٌ ناجعة تكفي الشاب شرَّ عبث الخواطر بالنفس.

– الإرشاد إلى أهمية الصحبة الصالحة، والتحذير من تبعات مصاحبة أصدقاء السوء.

– التعامل مع الجنس الآخر وَفق الضوابط الشرعية، والتي منها: عدم المصافحة، وعدم الخلوة، وترك الكلام لغير حاجة.

وفي النهاية، ينبغي التأكيد على عدم التضخيم من أمر الشهوة لدى الشباب، والعناية بسبل مواجهتها وَفق الأطر التي وضعها الشارع الحكيم، فهو الأولى والأصوب، وصلى الله وسلم وبارك على محمد وآله وصحبه.

المصدر: مجلة البيان.

مواضيع ذات صلة