هند بنت مصطفى شريفي
كرم الإسلام المرأة، وجعل لها مكاناً مرموقاً في الأسرة والمجتمع، وساوى بينها وبين الرجل في كثير من الحقوق والواجبات، فلم يفرق بينهما في التكاليف والجزاء
والإنسانية والكرامة على الله، كما “قد استقر في عرف الشارع، أن الأحكام المذكورة بصيغة المذكرين، إذا أطلقت ولم تقترن بالمؤنث، فإنها تتناول الرجال والنساء، لأنه يغلب المذكر عند الاجتماع”[1]، فكل خطاب أمر فيه الرجل المسلم بالدعوة إلى الله أمراً مطلقاً – لم يخصص به كونه رجلاً – فالمرأة تشترك معه فيه للمساواة في أصل التكليف.
كما أن من أمور الإسلام ما يلزم علمه لكل مسلم، ولا يقتصر تبليغ ذلك على الرجل فحسب، بل يلزم كل من يعلم هذه الأمور أن يدعو إليها حسب إمكاناته وقدراته، والمرأة المسلمة تحمل قسطا كبيرا من هذا التكليف[2]، وهذا يدل على اشتراكها مع الرجل في جميع المسؤوليات التي ينبغي أن ينهض بها المسلم، لإقامة المجتمع الإسلامي بالوسائل المشروعة، ومن هنا كان على المرأة أن تسلك السبل المشروعة للتسلح بسلاح العلم، لتتمكن من القيام بما يجب عليها[3].
وقد وردت الآيات العديدة التي تجعل النساء في مصاف الرجال، في القيام بالأعمال الصالحة والقربات، ومن ذلك تأكيد وإثبات دورها في الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما في قوله تعالى: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [4]، ففي هذه الآية ذكر الله تعالى المؤمنات إلى جانب المؤمنين، وذلك يؤكد دور النساء المسلمات، وما كان لهن من أثر ودور إيجابيين في الدعوة والسيرة النبويتين، في العهد المدني كما كان الحال في العهد المكي أيضا، هذا فضلا عن تقرير التكافؤ بين رجال المسلمين ونسائهم في التعاون والتناصر[5].
كما تظهر أهمية إعداد المرأة الداعية، في مبايعة النبي صلى الله عليه وسلم النساء ببيعة خاصة وذلك بعد فراغه من بيعة الرجال، وكان عمر رضي الله عنه يبلغه عنهن وهو واقف أسفل منه، وقد خُصت بيعة النساء بذكر نصها في سورة الممتحنة[6]، في قوله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾[7]، وقد اتفق المفسرون في إيرادهم مبايعة النساء بعد هذه الآية الكريمة[8].
وقد روت عائشة بنت قدامة بن مظعون[9] رضي الله عنهما، مبايعة النبي صلى الله عليه وسلم للنساء، (قال: أبايعكن على أن لا تشركن بالله شيئاً، ولا تسرقن، ولا تزنين، ولا تقتلن أولادكن، ولا تأتين ببهتان تفترينه بين أيديكن وأرجلكن، ولا تعصين في معروف)). فأطرقن، فقال لهن النبي صلى الله عليه وسلم: ((قلن نعم فيما استطعتن)). فكن يقلن وأقوله معهن)[10]، وقد عرفت بنود هذه البيعة بـ (بيعة النساء)[11].
ويتبين اشتمال البيعة على أسس الدعوة الإسلامية من عقيدة التوحيد، والالتزام بطاعة الله ورسوله، واجتناب الرذائل والمحرمات، والتحلي بالفضائل ، وهذه الأسس التي بايعن عليها، هي المقومات الكبرى للعقيدة، كما أنها مقومات الحياة الاجتماعية الجديدة[12]. وفيها وتأكيد لدور المرأة الإيجابي في الدعوة إلى الله كما يريدها الإسلام:
- فهي حليفة لزوجها المؤمن تؤيده في دعوته، وتنشطه في عمله، وترغبه في الجهاد، وتصبر على ما يكلفها ذلك من حرمان وربما ضيق في ذات اليد، أو فقد زوج وولد[13].
وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتمن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها على خبر عزمه على غزو قريش، ويقول لها: ((جهزينا واخفي أمرك))، وكتمت رضي الله عنها السر عن أقرب الناس إليها، أبيها أبي بكر رضي الله عنه حتى كان النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي أخبره[14].
كما أثبتت أم المؤمنين أم حبيبة رضي الله عنها لأبيها حصانة بيوت النبي صلى الله عليه وسلم ، وصدق ولائها للإسلام، وقوة دينها وتبرؤها من علائق الشرك وآصرة الدم حين قالت له – بعد منعه من الجلوس على فراش النبي – صلى الله عليه وسلم -: هو فراش رسول الله، وأنت مشرك نجس فلم أحب أن تجلس على فراشه.
كما أنها تغتنم لحظة انكساره وضعفه، وتعرض عليه دعوة الإسلام بقولها: (وأنت يا أبت، سيد قريش وكبيرها، كيف يسقط عنك دخولك في الإسلام، وأنت تعبد حجرا لا يسمع ولا يبصر؟، فقال: يا عجباه، وهذا منك أيضاً، أأترك ما كان يعبد آبائي وأتبع دين محمد)[15].
ويتضح ما للزوجة المؤمنة الصالحة من تأثير على زوجها، في قصة إسلام عكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه، الذي كان بفضل الله تعالى ثم بفضل جهود زوجه أم حكيم رضي الله عنها[16]، فقد أسلمت يوم الفتح وفر زوجها إلى اليمن بعد إهدار دمه، فاستأمنت له النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، وخرجت في طلبه، فلما أدركته أخذت ترغبه في الإسلام، ومما روي في ذلك قولها: يا ابن عم، جئتك من عند أوصل الناس وأبر الناس وخير الناس، لا تهلك نفسك، فقد استأمنت لك.
كما أظهرت شدة حرصها على إسلامه، مع استقامتها وصلابتها في دين الله، بمنعها له من مسِّها، حتى يدخل في الإسلام – لما طلب جماعها، فتأبت عليه – وقالت له: إنك كافر وأنا مسلمة، والإسلام حائل بيني وبينك. فقال: إن أمرا منعك عني لكبير[17]. ثم أسلم وحسن إسلامه وخرجا معا مجاهدين في سبيل الله، إلى اليرموك، وأبليا رضي الله عنهما بلاء حسنا، حتى قتل عكرمة.
- ويبرز دور المرأة في توثيق الروابط بين المسلمين، لتقوم على قاعدة الإيمان والولاء، وفي قطع الصلات مع المشركين، والتبرؤ منهم، تخلت أم هانئ رضي الله عنها، عن زوجها هبيرة بن أبي وهب المخزومي، لما رفض الإسلام، وبقي على شركه، وأسلمت هي لرب العالمين[18].
ويتأكد احترام المرأة في الإسلام وكرامتها، بإعطائها حقوقها السياسية، بإنفاذ جوارها وتأمينها لأثنين من أحمائها من بني مخزوم[19]، وإجازة النبي لها ذلك.
- والمتأمل في شخصية هند بنت عتبة رضي الله عنها، لا ينكر ما للمرأة من دور مؤثر، سواء في حالة غيها، أم في حالة هدايتها ورشدها، والفارق القوي بين الحالتين يبين ما للإسلام من أثر عظيم في صياغة أفكار واعتقادات وأعمال المرأة إن أسلمت، فقد كانت هند بنت عتبة رضي الله عنها قبل إسلامها شديدة العداوة للإسلام، ومن أكبر المحرضات على حربه، ولم يكفها عدوانها على المسلمين في غزواتهم السابقة، بل أنها ترفض قبول الأمان، وتثير حمية القوم ضد زوجها أبي سفيان، لقبوله التسليم، وتدفعهم للقتال ، فتقول- وهي آخذة بشارب زوجها أو لحيته ونادت: (يا آل غالب، اقتلوا الشيخ الأحمق، هلا قاتلتم ودفعتم عن أنفسكم وبلادكم. فقال لها أبو سفيان: ويحك اسكتي وادخلي بيتك، فإنه جاءنا بالحق). [20].
ولما أراد الله لها الهداية، وشرح صدرها للإسلام، أرادت الذهاب للرسول لتبايعه، فاستأذنت زوجها ، فقال لها: (قد كنت بالأمس مكذبة بهذا الأمر. فقالت: والله ما رأيت الله عُبد بحق عبادته بهذا المسجد قبل هذه الليلة، والله لقد باتوا ليلهم كلهم يصلون فيه)[21]، فدفعها ما رأت من صدق عبادة المسلمين لربهم إلى الرغبة في الدخول في الدين، فبايعت مع نساء قريش، وعفا عنها النبي صلى الله عليه وسلم.
وتريد أن تبدأ إسلامها بنقاء من الخطايا، فتسأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن حكم ما أخذت من مال زوجها دون علمه، فأفتاها النبي صلى الله عليه وسلم بأن تأخذ ما يكفيها وولدها بالمعروف[22]، فظهر الحكم الشرعي للناس في نفقة الزوجة بفضل حرصها على سؤالها عن دينها.
وصدقت في إيمانها، لمَّا استجابت لمنادي الرسول صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله فلا يتركن في بيته صنما إلا كسره أو حرقه. فجعلت تضرب صنما لها في بيتها بالقدوم فِلذة فلذة، وهي تقول: كنا منك في غرور)[23].
ثم خرجت مع زوجها أبي سفيان رضي الله عنه للجهاد في سبيل الله، فشهدت اليرموك معه[24]، ولمَّا اشتدت حملة الروم على المسلمين، واضطرب بعض المسلمين وانهزموا، وكان زوجها من بينهم، نظرت إليه وضربت وجه حصانه بعمودها، وقالت له: إلى أين يا ابن صخر، ارجع إلى القتال وابذل مهجتك، حتى يمحص الله عنك ما سلف من تحريضك على رسول الله صلى الله عليه وسلم [25].
كما ذكر أن الناس اقتتلوا في ذلك اليوم اقتتالا شديدا، حتى دُخل عسكر المسلمين، وقاتل نساء من قريش بالسيوف حين دُخل العسكر، منهن أم الحكيم بنت الحارث رضي الله عنها، حتى قتلت سبعا من الروم[26].
والخلاصة أن في مواقف المؤمنات ما يثبت أهمية دور النساء في القيام بالدعوة إلى الإسلام، حتى شهد لهن الأعداء بذلك، ومن ذلك قول أحدهم: (ومما يثير اهتمامنا ما نلاحظه من أن نشر الإسلام لم يكن من عمل الرجال وحدهم، بل لقد قام النساء المسلمات أيضا بنصيبهن في هذه المهمة الدينية)[27].
وذلك راجع إلى أن النساء أرق عاطفة وأكثر اندفاعا، والمرأة إذا آمنت بشيء لم تبال في سبيل نشره والدعوة إليه بما يقابلها من مصاعب، وعملت على إقناع زوجها وأخوتها وأبنائها به، وستظل حركة الإصلاح الإسلامي وئيدة الخطى قليلة الأثر في المجتمع، حتى تشترك فيها النساء، اللاتي نشأن على الإيمان والخلق والعفة والطهارة، فهؤلاء أقدر على نشر هذه القيم وغيرها في أوساط النساء من الرجال، عدا أنهن سيكن زوجات وأمهات، وهذا يستلزم أن تحمل النساء المؤمنات لواء الدعوة والإصلاح الإسلامي في أوساط بنات جنسهن، كما يقتضي ذلك تنشئتهم منذ الصغر على حب الله ورسوله ودين الإسلام، وتهيئة الوسائل المعينة على ذلك[28].
———–
[1] إعلام الموقعين عن رب العالمين 1/92، وللاستفادة انظر المرأة المسلمة المعاصرة، إعدادها ومسئوليتها في الدعوة: د. أحمد بن محمد بن عبد الله أبا بطين من ص 99- 104، دار عالم الكتب للنشر والتوزيع الرياض ط:1، 1411هـ 1991م.
[2] بتصرف المرأة المسلمة المعاصرة، إعدادها ومسئوليتها في الدعوة ص 114.
[3] بتصرف، فقه السيرة: د. محمد سعيد رمضان البوطي ص 383، دار الفكر للطباعة والنشر ط:8، 1400هـ 1980م.
[4] سورة التوبة آية 71.
[5] بتصرف، سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، صور مقتبسة من القرآن الكريم 2/40.
[6] بتصرف، حقوق النساء في الإسلام: محمد رشيد رضا ص 14، المكتب الإسلامي بيروت ودمشق، ط: بدون.
[7] سورة الممتحنة آية 12. وخص الأمور السابقة بالذكر في حق النساء لكثرة وقوعها فيما بينهن، مع اختصاص بعضها بالنساء بتصرف، تفسير أبي السعود 8/241، وقيل في وجه ترتيبها وتقديم بعضها على بعض: أنه قدم الأقبح على ما هو الأدنى، وقيل: قدم الأظهر فيما بينهم على غيره. بتصرف، تفسير الفخر الرازي 29/310.
[8] وهي الرواية التي تذكر أن هند بنت عتبة رضي الله عنها حضرت فيها متنكرة متنقبة، وكانت تحاور وتراجع النبي صلى الله عليه وسلم في كل بند من بنود البيعة ثم أسلمت.
[9] عائشة بنت قدامة بن مظعون القرشية الجمحية، بايعت مع أمها يوم الفتح، والدها من السابقين للإسلام وهاجر الهجرتين، وشهد بدرا. بتصرف، الإصابة 4/362. و 3/ 228.
[10] مسند الإمام أحمد 6/365، وقال الشيخ الساعاتي: سنده حسن، الفتح الرباني 21/165.
[11] كما روى عبادة بن الصامت رضي الله عنه : كنت فيمن حضر بيعة العقبة، وكنا أثني عشر رجلا، فبايعنا النبي صلى الله عليه وسلم على بيعة النساء، وذلك قبل أن يفترض علينا الحرب: على أن لا نشرك بالله شيئا… مسند الإمام أحمد 5/323.
[12] بتصرف، في ظلال القرآن 6/3547.
[13] بتصرف، المرأة المسلمة: وهبي سليمان غاوجي ص 258، دار القلم للطباعة والنشر بيروت ودمشق، ط:1، 1395هـ 1975م.
[14] سبق تخريجه ص 106.
[15] سبق تخريجه ص 103.
[16]انظر مسئولية النساء في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في ضوء النصوص وسير الصالحات: د. فضل إلهي ص 16، مطبعة سفير الرياض ط:1، 1415هـ
[17] بتصرف، السيرة الحلبية 3/40، وانظر مسئولية النساء في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ص31.
[18] انظر سيرة النبي صلى الله عليه وسلم: ابن هشام 4/41.
[19] قيل هما الحارث بن هشام وزهير بن أبي أمية بن المغيرة وقد ذكر الحافظ ابن حجر تفصيل الأقوال في ذلك. انظر فتح الباري 1/470 ح 357.
[20] السنن الكبرى 9/ 121، وانظر سيرة النبي صلى الله عليه وسلم: ابن هشام 4/24.
[21] البداية والنهاية 7/51، والإصابة 4/425.
[22] وقد قالت في سؤالها: إن أبا سفيان رجل شحيح، لا يعطيني من النفقة ما يكفيني ويكفي بني، إلا ما أخذت من ماله بغير علمه، فهل علي في ذلك من جناح؟، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : خذي من ماله بالمعروف ما يكفيك ويكفي بنيك. صحيح مسلم كتاب الأقضية باب قضية هند 3/1338 ح 1714.
[23] المغازي: الواقدي 2/871.
[24] انظر البداية والنهاية 15/7.
[25] بتصرف، مسئولية النساء في الأمر بالمعروف فضل إلهي ص 80. نقلا من الفتوح: العلامة أبو محمد أحمد الكوفي 1/202.
[26] بتصرف، فتوح البلدان: أحمد بن يحيى بن جابر المعروف بالبلاذري ص 160 و ص 141، تحقيق: د. صلاح الدين المنجد، مكتبة النهضة المصرية ط: بدون 1956م.
[27] الدعوة إلى الإسلام: سير توماس . و. آرنولد ص 451، ترجمه إلى العربية وعلق عليه: د. حسن إبراهيم حسن وآخرون، مكتبة النهضة المصرية ط:3، 1970م .
[28] بتصرف، السيرة النبوية دروس وعبر ص 68.
——-
* المصدر: موقع الألوكة.