د.همام عبد الرحيم سعيد
لا ينفصل الداعية عن دعوته. والاقتران بين الداعية والدعوة قائم في أذهان الناس. والداعية نفسه شهادة للدعوة، وهذه الشهادة قد تحمل الناس على قبول الدعوة، وقد تحملهم على ردها ورفضها. والذين يتعاملون مع المبادئ مباشرة قلة قليلة في كل عصر ومكان، وأما أكثر الناس فيتعاملون مع حملة المبادئ والناطقين باسمها.
وكلما كان المبدأ عظيماً وقوياً كان التزامه أشد، وكان الوصول فيه إلى المطلوب أشق. والإسلام فيه من الواجبات والتكاليف ما يجعل المجاهدة في سبيل بلوغ مقاماته دائمة لا تفتر، متصلة لا تنقطع.
وعندما يكون الداعية بعيداً عن الالتزام بواجبات الإسلام وتكاليفه، فإنه يكون فتنة للناس يصرفهم بسلوكه عن دين الله، ويقطع الطريق على الناس، فمثله كمثل قاطع الطريق، بل هو أسوأ، وينبغي على الداعية أن يدعو دائماً بقوله تعالى: {ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين} (يونس: 85)، وقد ذُكر في تفسير هذه الآية: “لا تمكنهم من أن يحملونا بالظلم والقهر على أن ننصرف عن هذا الدين الحق الذي قبلناه” (تفسير الرازي: 17/146).
“وكذلك فإن الكافرين عندما يتسلطون على المسلمين؛ فإن تسلطهم شبهة لهم في أنهم على الحق، وأن المسلمين على الباطل” (تفسير القرطبي: 8/370)؛ فيكون تسلطهم على المسلمين واستضعافهم للمؤمنين فتنة تصرف الكافرين عن الإيمان.
ويُضم إلى هذه المعاني أن يروا سلوك الداعية مخالفاً للإسلام، فيصرفهم هذا السلوك عن الإيمان، قائلين: لو كان هذا الدين هو الحق لظهرت أحقيته على قسمات أتباعه وتصرفاتهم.
نماذج صادقة
وقد كان أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- نماذج صادقة لدعوتهم وإسلامهم. يقول الحسن البصري في صفتهم: “ظهرت منهم علامات الخير في السماء والسمت والهدى والصدق، وخشونة ملابسهم بالاقتصاد وممشاهم بالتواضع، ومنطقهم بالعمل. ومطعمهم ومشربهم بالطيب من الرزق، وخضوعهم بالطاعة لربهم تعالى، واستقادتهم للحق فيما أحبوا وكرهوا، وإعطاؤهم الحق من أنفسهم، ظمئت هواجرهم ونحلت أجسامهم، واستخفوا بسخط المخلوقين رضىً للخالق، شغلوا الألسن بالذكر، بذلوا دماءهم حين استنصرهم، وبذلوا أموالهم حين استقرضهم، حسنت أخلاقهم، وهانت مؤنتهم” (حلية الأولياء: 2/150).
ولقد أعطى الصحابة عن هذا الدين صورة مشرفة للجنس البشري، فثبتوا أمام الابتلاء والمحن تاركين من الرخص ما يمكن أن يكون سبب فتنة لغير المؤمنين.
فهذا “عبد الله بن حذافة السهمي” صاحب رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يقع في إسار الروم: “فقال له ملك الروم: تنصَّر أشركك في ملكي، فأبى، فأُمر به فصُلب، ثم أمر برميه بالسهام فلم يجزع، فأُنزل، وأمر بقدر فَصُب فيها الماء، وأُغلي عليه وأُمر بإلقاء أسير فيها فإذا عظامه تلوح، فأمر بإلقائي إذا لم يتنصر، فلما ذهبوا به بكى، قال: ردوه، فقال: لم بكيت؟ قال: تمنيت أن لي مائة نفس، تُلقى هكذا في الله، فعجب ملك الروم” (الإصابة لابن حجر: 2/288).
وعندما رأى سكان البلاد المفتوحة صدق هؤلاء الأصحاب وثباتهم على عقيدتهم، وتمثلهم لمنهج دينهم، أقبلوا على الإسلام. قال ابن قيم الجوزية: “ولهذا لما رأى النصارى الصحابة، وما هم عليه، آمن أكثرهم اختياراً وطوعاً، وقالوا: ما الذين صحبوا المسيح بأفضل من هؤلاء”. ثم يقول ابن قيم الجوزية: “ولقد دعونا، نحن وغيرنا كثيراً من أهل الكتاب إلى الإسلام فأخبروا أن المانع لهم ما يرون عليه المنتسبين إلى الإسلام”. وكلام ابن القيم هذا في القرن الثامن الهجري؛ فكيف لو كان يعيش في عصرنا هذا، حيث يعطى المسلم صورة عكسية للإسلام وتعاليمه.
والداعية قد يكون معروفاً عند الناس، وقد يكون مجهولاً. فإذا شرع في الدعوة وكان معروفاً بالاستقامة والورع فإن كلامه يصل إلى مجامع القلوب، وكانت استقامته وورعه تقدمة القبول والحافز عليه.
وإذا كان الداعية فقيراً في التزامه واتباعه، فإن كلامه يمر فوق الرؤوس كالسهم الطائش الذي لا يصيب الهدف.
خير من القول فاعله
يقول الماوردي في أدب الدنيا والدين: “وقال علي بن أبي طالب: إنما زهد الناس في طلب العلم لما يرون من قلة انتفاع مَن عَلِم بما عَلِم… وكان يقال خيرُ من القول فاعله، وخير من الصواب قائله، وخير من العلم حامُله”.
وقال بعض الصلحاء: “العلم يهتف بالعمل، فإن أجابه وإلا ارتحل”.
وقال بعض البلغاء: “من تمام العلم استعماله، من تمام العمل استقلاله” (أدب الدنيا والدين: 85. واستقلاله: أن يجده قليلاً).
وإذا كان الداعية مجهولاً عند مستمعيه فإن كلامه يبقى معلقاً، لا هو بالمقبول ولا هو بالمردود حتى يسألوا عنه، فإن عرفوا منه الاستقامة والاتباع وقع المعلق من كلامه موقع القبول والتأثير. وإلا فإن كلامه يخرج من اعتبارهم.
وحياة الداعية الخاصة والعامة موضوع الملاحظة، وعين الناس عليه كالمجهر المكبر، وقبل أن يطالب الناس بترك الغيبة فعليه أن يدفع الغيبة والتهمة عن نفسه، وأن يصون حياته الخاصة والعامة عن كل ما يشينها.
المصدر: كتاب “قواعد الدعوة إلى الله تعالى”.