أحمد التلاوي **
تكتسبُ الدعوة مكانةً كبرى في الإسلام؛ حيث هي الأداة الأولى لنشر دين اللهِ سبحانه وتعالى في أوساط غير المسلمين، سواءٌ في المجتمعات التي يتواجد فيها مسلمون أو في تلك التي لا يُوجد فيها إسلامٌ أو مسلمون، وتوجيه المُسلمين إلى صحيح الدِين الإسلاميِ، وتنويرهم بما قد يقعون فيه من أخطاء وتبصيرهم بكيفية تجنُبها، ولذلك فإن للدعوة في الإسلام جزاءٌ لا يُعادله جزاءٌ آخر إلا الجهاد في سبيل اللهِ.. يقولُ الرسول الكريم صلى اللهُ عليْهِ وسلم: “لأنْ يهدي اللهُ بِك رجلاً واحدًا خيرٌ لك مِن حُمرِ النعم” [رواه البخاريُ].
وترتبط بهذه الفضيلة، فضيلةٌ أخرى، وهي فريضة طلب العلم التي هي من بين أهمِ أسباب استمرار الإنسان في حياته على وجه الأرض؛ حيث إن الإنسان لم يكُن لتقوم له قائمةٌ في الدُنيا، ولم يكُن ليكون قادرًا على القيام بأعباء الأمانات والمهام الجسام التي ألقاها الله تعالى على الإنسان، ومن بينها إعمار الأرض وإقامة شريعة اللهِ وعبادته فيها، فبدون أنْ يتعلم آدم “عليه السلام” قوانين الزرع والحصاد، وقوانين الغزل والبناء، وبدون أنْ يتعلم نبيُ الله داوود “عليه السلام” قوانين التعامُل مع الحديد والمعادن، ما أمكن للإنسان أنْ يأكُل من عمل يده، أو أنْ يستر نفسه، أو يتقي شر الحربِ، وهكذا.
وهناك ارتباطٌ وثيقٌ بين الدعوة وطلب العلم؛ حيث إن الإنسان الداعية يجب أنْ يكون أولاً عالمًا بما يجب عليه أنْ يدعو إليه، كذلك يجب أنْ يتكون لديه الكثير مِن المعارف حول كيفية التعامُل مع صنوف البشر المختلفين، وهو ما يفرض عليه أنْ يكون داعيةً في جانبٍ من جوانب شخصيتِه، وأنْ يكون أيضًا عالم اجتماعٍ ومُلمًا بعلمِ النفس وعلى درايةٍ بأساليب الاتصال والتواصُل الفعال مِن جانبٍ آخر.
ويقودنا الحديث في هذا الجانب إلى أهمِية إدراك دور التطوُرات القائمة حاليًا في العديد من المجالات التي يتحرك فيها وبها الداعية في وقتنا الحالي؛ حيث إن هناك الكثير مِن المُتغيِرات العميقة في طبيعة المجتمعات الإنسانية، على مختلف المستويات، القيمية والفكرية والأخلاقية، كذلك في مجال الأدوات التي يتحرك بها ومِن خلالها الداعية؛ حيث باتتْ وسائل الاتِصال المرئيِ والإلكترونيِ، مثل القنوات الفضائية والإنترنت أو ما يُعرف في الأدبيات الاجتماعية والإعلامية بوسائل الإعلام الجديد أو الـ”نيوميديا” [New media].
فلم تعُد الدعوة والداعية الآن على ذات نسق الصُورة القديمة أو حتى تلك التي كان عليها قبل بضعة عقودٍ قليلةٍ خلتْ؛ فلم يعُد الداعية في عصرنا الحالي هو ذلك الشيْخ المُعمم الذي يطوفُ على تلاميذه حاملاً كُتُبًا وأوراقًا أو ألواحًا خشبيةً لتحفيظ طُلابه القرآن الكريم، فلمْ تعُد هذه الصُورة باقيةً إلا في المُجتمعات التي لا تزال في بداية الطور الأول للتقدُم الحضاريِ، كما في مناطق قارة أفريقيا جنوب الصحراء.
كما لم يعُد طُلاب العِلم مُطالبون في عصرنا الحالي بقطع آلاف الكيلومترات على راحلةٍ تقطع بهم المسافة من المغرب إلى المدينة المُنورة أو إلى بغداد لأخذ العلم عن شيوخ المذاهب المُختلفة وتلاميذهم، مُتعرِضين في سبيل ذلك لمختلف ألوان المشقة.
فالداعية الآن صار شابًا عاديًا، مثلي ومثلك، يرتدي السُترة “الأفرنجية” كما كان يصفونها قديمًا، ويحمل في يده الـ”لاب توب” بدلاً مِن الكتب والأوراق، وبدلاً من أنْ يجلس أمامه طُلابه أو جمهوره على الأرض أو على بسطاتٍ خشبيةٍ؛ صاروا يجلسون على مقاعد وثيرةٍ، وبدلاً مِن أنْ يقطع طُلابه من المسلمين وراغبي المعرفة من غير المسلمين المسافات الطويلة للحصول على العلم منه؛ أصبحوا قادرين على ذلك من دون أنْ يقوموا من مقامهم من خلال متابعة هذا الموقع الإلكترونيِ أو ذاك، أو فتح شاشة التِلفاز على تلك القناة الدعوية أو هذه، لمتابعة فقرات أو برامج هذا الداعية المُفضل لديهم.
وفي حقيقة الأمر؛ فلقد مر العالم بالعديد مِن التطوُرات الضخمة في مجالات عدةٍ حتمتْ على العاملين في الحقل الدعويِ تطوير شكلهم وأدواتهم؛ بل وأفكارهم ذاتها.
فالتطوُرات الضخمة التي أوجدها العلم، والتي تواكبت مع العديد من التطوُرات والتحوُلات الاجتماعية والسِياسية الكُبرى التي شهدها العالم في سنوات التِسعينيات الأولى؛ حيث تزامن بدء الثورة الصِناعية الثالثة التي تعتمد على الاستخدام المُكثف للمعلومات، وظهور أدوات الإعلام المعرفية الجديدة أو الـ”إنفوميديا” [Info media]، مثل الإنترنت والفضائيات والهاتف المحمول وغير ذلك، تزامنْتْ بدورها، مع انتهاء الحرب الباردة، ودخول العالم فعليًا في عصر العولمة، والتي أدخلتْ العالم عصرًا من الانفتاح غير المسبوق، وبات العالم قريةً صغيرةً بالفعل.
وهو ما حتم على الدُعاة الجُدد أو دُعاة الزمن الجديد، مُواجهة أمريْن أساسييْن؛ الأول هو ضرورة الاستجابة للمُتغيِرات القائمة في عملهم، والاستفادة مِن مفردات هذه التطوُرات في تحسين مستوى أدائهم، على مختلف المُستويات، بما في ذلك حتى الوصول إلى شرائح من الجمهور المستهدف الذي لم يكُن من المُمكن الوصول إليه قبلاً؛ حيث صار مِن السُهولة بمكانٍ حاليًا مخاطبة جمهور المسلمين وغير المسلمين في أصقاع كندا أو في مجاهل أفريقيا على حدٍ سواء من خلال وسائل المواصلات والاتصالات العصرية الحديثة.
الأمر الثاني الذي تحتم على الدُعاة الجُدد مُواجهته في العصر الحالي هو كيفية إيجاد وسائل وحلولٍ خلاقةٍ للمُشكلات الأخلاقية والاجتماعية التي ترتبتْ على هذه الحالة من الانفتاح غير المسبوق، والتي أوجدتها السُهولة المُطلقة في انتقال المعلومات والصُور، ولنتصور حجم هذه المُشكلة؛ فإنه يكفي أنْ نعرف أن الاستثمارات الأوروبية فقط في مجال القنوات الفضائية الإباحية تبلغ 460 مليار يورو تُدرُ أكثر من مليار يورو أرباحًا سنوية!
ولذلك فإن الدعوة والدُعاة في عالمنا المُعاصر باتوا يواجهون تحدِي “العصرنة” أو التحديث [Modernization] على أكثر مِن مستوىً، الأول هو تطوير أنفسهم وأدواتهم، ومواجهة الوجه الآخر السلبيِ مِن تأثيرات هذه الأدوات.
مُوجبات التطوير
وفي الإطار، تكتسب مسألة كيفية تطوير أساليب الدعوة في عالمنا المُعاصِر مِن أجل تحسين مستوى الرِسالة ومدى وصولها إلى الناس في المجتمعات المحلِية وعلى مستوى العالم، وكيفية تطويع الوسائل العصرية في مجاليْ الإعلام والاتِصال، وتطوير وسائل الدعوة التقليدية من خلال أدوات العصر الحديث، العديد من أوجه الأهمِية، وخصوصًا على مستوى المجتمعات العربية والإسلامية.
وأول وجهٍ من هذه الأوجه هو الوجه العقليُ أو المنطقيُ؛ حيث إن عدم مُواكبة أي مجالٍ من المجالات في عصرنا الحالي، وليس المجال الدعوي فحسب؛ للتطوُرات القائمة في المجالات المُرتبطة به، وفي أدواته؛ يعني أن هذا المجال سوف يُعاني من حالةٍ من الجمود التي تفشِل مُختلف الجهود المبذولة فيه.
فلو افترضنا أن سعي الإنسان في مجال التعلُم والدِراسة والكتابة في مجتمعٍ ما قد توقف عند حدود زمنٍ مُعينٍ عندما كانت الرِيشة والمحبرة وأوراق الجلد المدبوغ هي أدوات الكتابة الرئيسية؛ فإن هذا المجتمع سوف يصبح مُتخلِفًا مقارنةً مع المجتمعات الأخرى التي سبقته في هذا المجال، وهو ما قد يعرِض وجوده ذاته للخطر؛ حيث سوف يتوقف تقدُمه العلميُ عند حدِ قُدرة الرِيشة والمحبرة، بينما الآخرون قد سبقوه إلى السيارة والطائرة وغير ذلك، وسيكون مِن السهل غزوه، أو تعرُضِه للاندثار.
وبالمثال القول في مجال الدعوة؛ حيث إنه لو استمر الحال بالدعوة الإسلامية عند حدود الكُتاب وألواح الخشب؛ فسوف يكون لذلك أوخم العواقب على الإسلام والدعوة؛ حيث إن المجتمعات الحضارية غير المُسلمة سوف تنظر إلى المسلمين على أنهم قومٌ مُتخلِفون، ولا يستحق دينهم “الذي لا يواكب أساليب العصر” الالتحاق به، وهو ما سوف يقود إلى الانصراف عن الإسلام، بينما الإنسان هو دين العلم والمعرفة لا مراء.. يقول اللهُ سُبحانه وتعالى في سُورة “الرُوم”: ﴿أو لمْ يتفكرُوا فِي أنفُسِهِم ما خلق اللهُ السمواتِ والأرْض وما بيْنهُما إِلا بِالْحقِ وأجلٍ مُسمًى وإِن كثِيرًا مِن الناسِ بِلِقاءِ ربِهِمْ لكافِرُون (9)﴾، ويقول عز وجل أيضًا في سُورة “العنكبوت” ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأرْضِ فانْظُرُوا كيْف بدأ الْخلْق ثُم اللهُ يُنْشِئُ النشْأة الْآخِرة إِن الله على كُلِ شيْءٍ قدِيرٌ(20)﴾.
الوجه الثاني للأهمِية هو الإشكالية المُتعلِقة بظاهرة الخوف المرضي مِن الإسلام في الغرب، أو ما يُعرفُ بـ”الإسلاموفوبيا”، والتي ترسختْ في المجتمعات الغربية في مرحلة ما بعد أحداث 11 سبتمبر 2001م، وزاد من تكريسها الإعلام الصُهيونيُ والمسيحيُ المُحافِظ، وخصوصًا في الكاثوليكيات والبروتوستانتيات الكبرى في أوروبا وأمريكا الشمالية، وخصوصًا في فرنسا والولايات المتحدة.
هذه الإشكالية فرضت على الدعوة والعاملين في حقلها العديد مِن الأمور والمهام، ومن بينها تحسين مستوى الصُورة الذِهنية والنظرة للإسلام في المجتمعات الغربية، وهو ما لن يتأتى إذا ما استمرت الدعوة الإسلامية ودُعاة المُسلمين على أنساقها التقليدية؛ حيث لن يكون هناك قابليةٌ للاستماع لدى الآخر من الأساس.
على مستوىً آخر؛ فإن المُتغيِرات الكبيرة التي طرأت على المجتمعات العربية والإسلامية نتيجةً للتقدُم في مجالات الاتِصالات، وحالة الانفتاح العالميِ الكبير التي أدتْ إلى العديد مِن المُتغيِرات في مُجتمعات عالمنا العربيِ والإسلاميِ، والتي قادتْ إلى العديد مِن التأثيرات على القِيمِ والأخلاقيات فيها، أو ما يُعرفُ بالغزو الفكريِ والثقافيِ، والذي هو أخطر أنواع الغزو؛ لأنه مُنظمٌ ويرتبطُ في أهدافه لدى أعداء الأُمة بمحاولة فصل الإنسان المُسلم عن هُويتِه وتُراثه.
في المُقابل يتمُ ربط البنية الفكرية والثقافية والقيمية والسُلوكية للشباب المُسلم بقيم الغرب، بما ذلك حتى الملابس التي يرتديها وطريقة حلاقة شعره وكيفية قضائِه لأوقات فراغه، وحتى علاقاته مع والديْه وأسرته والجنس الآخر؛ حيث يتم “شرعنة” أفكارٍ مثل عصيان الوالديْن وإقامة علاقاتٍ غير سويةٍ مع الفتيات تحت مُسميات مثل الحُرِية الفردية للإنسان، في سلوكه وفي جسده، وحقوق الإنسان، وغير ذلك.
ولقد أدتْ المُتغيِرات الاقتصادية والاجتماعية التي طرأت على عالمنا العربيِ والإسلاميِ أيضًا إلى ظهور شرائح جديدةٍ في هذه المجتمعات، عُرِفتْ باسم “الطبقة الراقية” أو “الأرستقراطية الجديدة” التي تمسكت بمجموعةٍ من القِيم والأخلاقيات البعيدة عن الإسلام، والتي من بينها الانفتاح بين الجنسيْن، وحُرِية إقامة العلاقات غير الشرعية، في المُقابل، تنامى الفقر في أوساط شرائح أخرى، وغابت الطبقة الوسطى، أو اندمجتْ أو تحولتْ إلى الطبقات الدُنيا، وهو ما رافقه الكثير من الانحراف عن قِيمِ الإسلام الصحيحة.
ويُعتبر الشباب هم الشريحة الأكثر ارتباطًا بهذه القضايا جميعها، ولذلك يجب البحث في أبرز وأسهل الوسائل التي يمكن بها الوصول إلى هذه الشريحة في ظلِ هذه المُتغيِرات المُشار إليها عربيًا وإسلاميًا، وكذلك في الغرب.
ففي الغرب يُعتبر الشباب الجديد الذي لم يُشبع بعد بقيم مجتمعه بشكلٍ كاملٍ، ولا يزال في مرحلة التجريب والاختيار، في أفكاره وفُرصِه وحتى دينه، وبالتالي؛ فإنه مِن السُهولة مخاطبة هذه الشرائح، التي سوف تكون هي أيضًا في المُستقبل صُناع القرار في بلدانها ومجتمعاتها، عن مخاطبة الأجيال القديمة.
بينما في عالمنا العربيِ والإسلاميِ، يُعتبر الشباب هُم الشريحة الأكثر تأثُرًا بهذه المُتغيِرات، وكذلك الشريحة التي يجب العمل على إصلاحها قبل أنْ تصل إلى مرحلة اللاعودة في سياقاتها الفكرية والقِيمية، وهي التي تغيرتْ أيضًا أكثر من غيرها، بما في ذلك مفهومها للتديُن ذاته؛ حيث كان للتديُن في الماضي العديد مِن السِمات الفكرية وكذلك الشكلية أو المظهرية التي تبدلتْ كُلِيًا في عصرنا الحالي، فلم يعُدْ هناك أهمِيةٌ لبعض المُفردات، مثل الِلحية وزيِ العُلماء التقليديِ، وأصبح الداعية ذاته أقرب من غيره إلى المظهر العصريِ.
ولقد فرضتْ هذه الأوضاع على العاملين في حقل الدعوة البحث عن حلولٍ خلاقةٍ ومُبدعةٍ لإمكان تطوير أنفسهم أولاً شكلاً وموضوعًا، وثانيًا تطوير أدواتهم، تمهيدًا للانتقال إلى مرحلة مُواجهة كلِ هذه المشكلات والقضايا.
** المصدر: إسلاميات.