أ.د. عبد الحليم عويس **
للدعوة ثوابت -في العقيدة والشريعة والأخلاق، والإطار الحضاري- لا يجوز المساومة عليها، فبدونها يتعرض الإسلام -في ركائزه وشُعَب إيمانه- إلى فوضى، ويصبح خليطًا من القِيم والتصورات المتناقضة التي يهدم بعضها بعضًا، وتتلاعب بها عقول اللاعبين، وأهواء المنافقين.
• وهذه الثوابت بعيدة عن تقلُّبات العصور والأماكن، إلا في أساليب عرضها، وآليات نشرها، وفقه عرضها.
• بيد أن هناك مساحة أخرى تتصل بفقه الدعوة، وفقه الداعية، تبقى قابلة في كل عصر للتطوير والتحديث، بل إنها لتختلف من مخاطب إلى مخاطب آخر، ومن بيئة إلى بيئة أخرى، فما يقال في قرن مضى قد لا يقبله الناس اليوم، وما يخاطب به أهل البادية والريف قد يختلف عن خطاب أهل الحضارة والثقافة، وهكذا.
• ونحن نرى أن (الداعية المعاصر للإسلام) يحتاج إلى زادٍ كبير، وفقه عميق بالإسلام، وبوسائل عرضه ونشره، كما يحتاج إلى فقه كبير بالعصر الحديث بقاراته التي تختلف ثقافيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا.
• وإذا كانت آليات البلاغ قد تطورت تطورًا معروفًا من خلال الإذاعات والشاشات المرئية والإنترنت، وغيرها من وسائل الإعلام والدعوة، فإن الداعية المعاصر في حاجة إلى الفقه والوعي والثقافة التي تمكِّنه من تقديم الإسلام تقديمًا يُعبر بجلاء والتزام عن ثوابت الوحي، لكنه في الوقت نفسه يُحسن الدخول الجيد إلى (العقل المعاصر) لكل ما يحتشد به هذا العقل من أفكار وتصورات وأنماط حياة.
• وفي النقاط التالية نقدم بعض المنطلقات والمعالم المتصلة بفقه الداعية والدعوة، والتي نراها ضرورية للداعية المعاصر للإسلام.
الدعوة للإسلام إحياءٌ للفطرة
• على الداعية أن يفقه الصلة العميقة بين حقائق الإسلام والفطرة الإنسانية، وبالتالي فعليه أن يخاطب الكِيان الإنساني كله، وليس العقل وحده، وأيضًا ليس العاطفة وحدها، وعمل الإسلام الأكبر إعادة الإنسان إلى فطرته النقيَّة التي فطر الله الناس عليها.
• وليس بالشريعة أو القانون يصنع الإسلام الحياة ويقود الإنسانية.
• فالإسلام ابتداءً دين الفطرة، وكل مولود في نظره يولد نظيفًا طاهرًا، لا يحمل أي نجاسة سابقة، وليس مسؤولاً عن أي شيء قبل بلوغه.
• فالإسلام قبل أن يضع القوانين، وبعد أن يُرسي أساس الربوبية، يقيم دعامات أخرى إنسانية تشيع بين الناس أواصر الرحمة، والحب، والتسامح، والفضل، والتعاون، ومراقبة الضمير، وخشية الله، إلى غير ذلك من المعاني الكريمة.
• والآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تؤكد هذه المعاني أكثر من أن تحصر، بل إن أبرز معالم الصياغة الإنسانية للمجتمع في المنهج الإسلامي تؤكد على إيمان الإسلام (بنظافة الفطرة الإنسانية)، وبأنه لم تولد آثمة أو خاطئة، وبأن ما يَلحقها من عيوب، إنما هو حصاد تأثرها بأوضاع غير كريمة في المجتمع تطورت وتأكدت عبر العصور، وبأن الإسلام يعتمد في تشريعاته على هذا الرصيد الكريم للفطرة، ويحاول تحريك الإنسان بالإرادة الذاتية من داخله، قبل أن يقوده بسلاسل القانون من خارجه؛ قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ [الرعد: 11]، وقال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾ [العنكبوت: 69].
• ويضاف إلى موقف الإسلام من التناغم مع الفطرة، موقف الإسلام من جوانب الإنسان الفطرية بالطرق الحلال، وتصعيد كل غرائزه، وليس كبتها أو حِرمانها بالرهبانية المبتدعة، أو الزهد الكاذب، (فالإسلام ليس عقيدة صوفية، ولا هو فلسفة، ولكنه منهج للحياة حسب قوانين الطبيعة التي سنَّها الله لخلقه، وما عمله الأسمى سوى التوفيق التام بين الوجهتين الروحية والمادية في الحياة الإنسانية)، كما يقول اليهودي المهتدي إلى الإسلام محمد أسد رحمه الله.
• وينبني على هذا إعطاء الإسلام كل ذي حق حقَّه في توازن، وبلا إفراط أو تفريط، فللرجل حقه كإنسان، وللمرأة حقها، وللابن حقه، وللأب حقه، وللضيف حقه، وللمريض حقه، وللعاجز حقه، وللفقراء والمساكين واليتامى والمعوقين وأشباههم حقوقهم، فالإسلام للجميع؛ لأنه للإنسان، لمجرد أنه إنسان.
السنَّة والسيرة هما الترجمة الواقعية للقرآن
لينطلق الداعية من حفظ القرآن وفقهه أو تفسيره إلى ربط القرآن بالحياة الواقعية، وهنا سيعود الربط الكامل بين القرآن الكريم والسنة الصحيحة، ولو لم يرَ المسلمون في رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (قرآنًا يعيش بينهم)، لما وجدوا النموذج العملي الذي يُحوِّل لبناتهم؛ ليكونوا بحقٍّ خير أمة أخرجت للناس، فليس بالفكر والتنظير وحده يمكن تغيير الأفراد والمجتمعات.
• أجل: إن السنة النبوية الشريفة هي السلوك الحيّ والتطبيق -بل التفسير الأول العملي- للقرآن، فهي الدليل (الواقعي) الذي قدمه الرسول -عليه الصلاة والسلام- قولاً وعملاً على أن الإسلام دين سماحة ويسر وقابلية كاملة للتطبيق من كل الناس.
• ومنذ أربعة عشر قرنًا من الزمان والسنة تمثل المِفتاح الذي يفهم به أسلوب الحياة الإسلامية، ويفهم به سبيل العودة إليها، وطريق النهضة الإسلامية بوجه عام[محمد أسد (ليوبولد فايس)؛ الإسلام على مفترق الطرق، ص88، طبع بيروت].
أليست هي (المثال) الذي أقامه لنا الرسول من أعماله وأقواله؟
أليست هي التفسير الأول الصحيح للقرآن الكريم؟
وبالإضافة إلى ذلك فإن السنة تقوم بدور ذي ثلاث شُعب:
فهي تمرِّن الإنسان بطريقة فردية منظمة على أن يحيا الإنسان دائمًا في حال من الوعي الداخلي والضبط واليقظة: (اعبد ربك كأنك تراه)، وهو إذا فعل ذلك يقدم بعمله وسلوكه رسالة دعوية مستمرة ومتجددة لكل الناس رسالة السلوك الفردي القدوة!
وهي تمرِّن الإنسان على أن يكون نافعًا اجتماعيًّا وإيجابيًّا في مواجهة العادات والتقاليد، ومتماسكًا مع مجتمعه الصغير والكبير.
وهي أيضًا رسالة دعوية اجتماعية مستمرة ومتجددة.
وهي تجعل من إشعاعات الرسالة، الممثلة في سلوك الرسول وصحابته، حقيقة يمكن أن يتمثلها المسلم العادي الصغير الموجود في تركيا، أو باكستان، أو الجزيرة العربية، أو إندونيسيا، أو مصر، أو إيران، فكلهم يستطيع أن يتمثل -مع اختلاف في مستوى التمثيل- شخصية أعظم مثل أعلى في التاريخ، وهو محمد صلى الله عليه وسلم.
• فالربط الكامل بين القرآن (الدستور والفكر)، والسنة (النموذج والحياة الواقعية) من ضرورات فقه الدعوة في هذا العصر الذي كثُر فيه الكلام، وقلَّ العمل والصدق والقدوة!
الدعوة رسالة بشر ممتازين لا ملائكة معصومين
• إنسانية الإنسان وكرامته وواجباته وحقوقه، وحقوق الله وحقوق العباد، هي المحيط الذي يتحرك فيه الداعية؛ ليصنع ناسًا ممتازين في نطاق البشرية، لا ملائكة ولا رافضين للحياة أو مدمرين لها.
• ولقد يظن بعض الناس أنه من المفروض على الأنبياء أن يحولوا البشر إلى ملائكة، وأن أتباع الأنبياء يجب أن يخرجوا من نطاق بشريَّتهم!
• وهذا في الحقيقة من الظن الباطل، فليس من الممكن ولا من المطلوب إخراج الناس عن طبيعتهم، بل المطلوب إعادتهم إلى فطرتهم بعيدًا عن الزيف الفكري والحضاري اللاديني.
• وكل ما تصنعه المبادئ الرفيعة في رحلة التاريخ -وعلى رأسها الإسلام- أنها تجعل الإيقاعات البشرية متناغمة لا متنافرة، وأنها تحول دون أن تقضي الشوائب والسلبيات على نهر الحياة الإنسانية، فيبقى الشرُّ -وبخاصة في مراحل الازدهار- محصورًا في جوانب قليلة، وفي دائرة الشذوذ، بينما يمتد الخير إلى معظم المساحة الإنسانية، ويمثل بالتالي قاعدة الحياة الإنسانية.
• إن المجتمع الذي لا أخطاء فيه ليس مجتمعًا إنسانيًّا، ومثل هذا المجتمع لم يوجد ولا يمكن أن يوجد في التاريخ البشري.
• والفترة التي وجد فيها الأنبياء -عليهم السلام- ولا سيما في لحظات انتصارهم وسيطرة مبادئهم هي أعلى المراحل التي يمكن أن تصل إليها البشرية.
• إنها المثال الذي تضعه العناية الإلهية في “نموذج تاريخي” واقعي؛ لكي تبقى البشرية متفائلة مقاومة للشر، ساعية إلى الوصول إلى أقرب نقطة ممكنة من هذا المثال الحي الواقعي.
وليس في طريق الطبيعة الإنسانية أن يقوى الناس جميعًا أو أكثرهم على الوقوف طويلاً في القمة، والتشبث بمواقع البطولة والمثال.
كما أنه ليس مطلوبًا من كل الناس أن يكونوا في مستوى أبي بكر الصديق الذي يتبرع بكل ماله، إن أبا بكر الصديق مجرد نموذج للمثال، أما المستوى المتناغم مع الطبيعة البشرية، فهو المستوى الذي حدده الرسول – عليه الصلاة والسلام – عندما منع سعد بن أبي وقاص من أن يتصدق بكل ماله، بل طلب منه أن يذَرَ ورثته أغنياءَ لا يتكففون الناس، وحسبه أن يَهَبَ ثُلُث ماله، بل إن الثُّلث كثير!
ونموذج الأنصار الذين منحهم الله في القرآن الكريم أرفع درجة في التاريخ -الإيثار بالمال والأرض- هو أيضًا مجرد نموذج للمثال الذي يقدم أروع صورة تستطيع البشرية أن تقترب منها، وليس شرطًا أن تكون في مستواها، فيصبح كل مسلم قادرًا أن يقول لكل مسلم: انظر أي مالي أطيب، فخُذه، أو انظر أي زوجتي شِئت، فأُطلقها لتتزوَّجها!
إن هذا المستوى يمثل النموذج الإنساني الذي يمكن أن يرتفع إليه البشر، إنه (مستوى القمة والمثال)، وليس من الموضوعية أن يحاكم التاريخ البشري بأقوى مما تطيقه (البشرية).
—-
المصدر: الألوكة.