د. محمود صدقي السعدي
تختلف الأقليات الإسلامية في أوروبا عن غيرها من الأقليات الإسلامية الموجودة في العالم من عدة جوانب؛ منها: عددهم الضخم، الذي تجاوز الثلاثين مليون نسمة، وأصولهم المختلفة والتي ترجع إلى معظم الدول الإسلامية، بالإضافة إلى أن عددا لا بأس به من المسلمين هم من أصول أوروبية واعتنقوا الإسلام عن رغبة صادقة.
هذه الجوانب تجعل بمقدور الأقلية المسلمة هناك القيام بدور مؤثر يحقق مصالح المسلمين في العالم. ومع هذه المميزات التي تميز المسلمين في أوروبا عن غيرهم، إلا أنهم يواجهون تحديات كثيرة ومشاكل متعددة. منها مشكلات الإقامة والعمل، ومنها الصعوبات الخاصة بتوفير التعليم الإسلامي لأبناء المسلمين، والحفاظ على الهوية الإسلامية في ظل هذه المجتمعات الإباحية التي تنتشر فيها الانحرافات الأخلاقية، كذلك هناك اضطهاد لبعض الأقليات المسلمة خصوصا في ألمانيا، وإن كانت هناك مبالغات فيما يصل من أخبار إلى العالم الإسلامي عن هذا الاضطهاد.
هجوم وسائل الإعلام على الإسلام
لكن أكبر مشكلة تواجه الأقليات هي الهجوم العنيف على الإسلام والمسلمين في وسائل الإعلام الغربية، التي يسيطر عليها أناس يكرهون الإسلام، ويحاولون الكيد له وتنفير الناس منه، حتى أصبح الإرهاب هو السمة التي تميز الإسلام عن غيره في الإعلام الغربي، ويستغلون للدلالة على ذلك بعض الأحداث التي تحدث في بعض بلاد المسلمين ليبرهنوا على صحة كلامهم، وتناسوا وتغافلوا عن حقيقة الإرهاب في بلادهم، فالكل يعرف أن المافيا خرجت من جزيرة صقلية في إيطاليا، والعصابات التي ترتكب أبشع الجرائم ليس لها وجود في الدول الإسلامية، في حين أن أي شخص لا يستطيع السير في الساعة التاسعة ليلا في شوارع نيويورك أو لندن أو باريس أو غيرها خوفا من أن يتعرض للسرقة والقتل. وهناك منظمات إرهابية كثيرة في أوروبا، لكن الحقد الأسود في قلوب هؤلاء يجعلهم يقلبون الحقائق ويحاولون إقناع عامة الناس بها.
الأقليات وتأقلمهم مع الواقع
وبجانب هذه المشكلات يواجه المسلمون في أوروبا مشكلة من نوع خاص، وهي كيفية تأقلمهم مع الواقع في الغرب، والمحافظة على الشريعة الإسلامية في ظل هذا الواقع. إن كثيرا منهم يعتقد أنه لا بد من وجود العالم الرباني والفقيه المميز المطلع على أحوال المجتمع، والذي يمكن أن يكون مرجعا لهم للإجابة عن أسئلتهم واستفساراتهم، وحل المشكلات التي يواجهونها بما يكفل لهم المحافظة على الشريعة الإسلامية، والتكيف مع تلك الحياة التي يعيشونها، كما أنهم بحاجة ماسة إلى دعاة مصلحين بصيرين بأدواء المجتمع يستطيعون بأسلوبهم الحكيم أن يجذبوا أولئك الشباب الذين فتنتهم الحضارة الغربية، مما زعزع في نفوسهم ثقتهم بدينهم وبربهم، فهؤلاء يحتاجون لمن يقف بجانبهم، ويدلهم على الطريق المستقيم، ويعود بهم إلى الإسلام من جديد، ويوضح لهم ما فيه من مثل عالية نبيلة.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإنه نظرا لاختلاف اللغة في تلك البلاد، فإن المسلمين هناك يعانون من نقص شديد في الكتب والمطبوعات الإسلامية، والتي من خلالها يستطيعون الارتباط بدينهم وعقيدتهم، ولذا فإنهم يطالبون المسلمين في كل مكان بضرورة النظر في هذا الأمر.
المدارس الإسلامية لا تكفي أبناء المسلمين
ولعل هذه المشكلة تتضح أكثر في أولئك الذين ولدوا وترعرعوا في ظل هذه الحضارة المتحررة، والتحقوا بمدارس غربية بعيدة في تقاليدها وتعاليمها وأخلاقها عن الإسلام والمسلمين، مما يشكل عبئا ضخما على أسرهم وذويهم؛ فالمدارس الإسلامية والمناهج التربوية الأصيلة قليلة هناك، ولا تكفي لتلبية حاجات المسلمين، والكتب التي تعلم اللغة العربية وكذلك الأشرطة السمعية قليلة جدا، مما يعني صعوبات كثيرة في المحافظة على هذه اللغة لغة القرآن، وبالتالي فقدان كثير من أبناء المسلمين لهويتهم وارتباطهم العقائدي واللغوي بإخوانهم .
الأقليات والجهد الدعوي
ويجب أن يعلم أن المسلمين هناك لم يقفوا مكتوفي الأيدي، بل يجاهدون في مواجهة كل هذه المشكلات بما عندهم من إمكانيات، فهم يحاولون إظهار الإسلام بما فيه من عقيدة صافية وأخلاق عالية وبعد عن أسباب العنف والإرهاب عبر وسائلهم الإعلامية البسيطة التي يملكونها، وعن طريق عقد الندوات والمؤتمرات والمحاضرات التي تعرف بالإسلام على حقيقته، كما أن المراكز الإسلامية هناك تحاول إيجاد الحلول الإسلامية والفقهية بما يتناسب وطبيعة العيش في تلك البلاد، ثم هم لم ينسوا أبناءهم وأبناء المسلمين الذين ولدوا في تلك البلدان، وكان لزاما عليهم أن يلتحقوا بالتعليم والمدارس، ولذا فإنهم قاموا بإنشاء عدد من المدارس الإسلامية الخاصة، لكي يتمكن المسلمون من إلحاق أبنائهم بها، وهم من خلالها يحاولون نقل الآداب الإسلامية إليهم، وتعويد الطلاب عليها بما يكون سببا في المحافظة على هويتهم وعقيدتهم، كما أنهم أولوا اللغة العربية أهمية كبيرة وحرصوا على نقلها وتعليمها لأبنائهم.
حاجة الأقليات إلى دعم المسلمين
إلا أنه مع هذه الجهود المبذولة، فإن الواقع يدل على أن المسلمين هناك ما زالوا بحاجة ماسة إلى تعاون المسؤولين والدعاة والمصلحين في كل مكان، للمشاركة في المحافظة على الهوية الإسلامية، وخاصة لأولئك الذين تربوا في تلك المجتمعات ونشؤوا فيها، وتأثروا ولا شك بعادات وتقاليد الغربيين التي لا تناسب مطلقا التعاليم الإسلامية.
إن المسلمين في أوروبا يمكن أن يكونوا رسل خير ودعاة إصلاح وصورة مشرقة للإسلام والمسلمين لو نالوا قسطا وافرا من الرعاية، تجعل منهم مثالا للمسلم الحق الذي يعتز بدينه وعقيدته. وبذلك يستطيعون نقل الإسلام على حقيقته، صافيا نقيا من أي تشويه وتغير لتلك الشعوب البائسة التي ضللتها وسائل الإعلام، فشوهت صورة الإسلام لديهم ونفروا الكثيرين منه.
المصدر: موقع باب.