إبراهيم بن ناصر الحمود
موضوع الإصلاح موضوع يحمل همّ الأمة بكاملها، لأن في صلاحها صلاح المجتمع الذي يعيشه أهل كل بلد، وهذا يكمن في معرفة منهج الإسلام في الإصلاح وأصوله
الشرعية ووسائله وآثاره الحميدة على البلاد والعباد.
فمن يقرأ في نصوص الكتاب والسنة يجد الحث والترغيب في الإصلاح وأنه ضرورة لاستقامة الحياة على المنهج السليم الذي يؤلف بين قلوب المسلمين ويوحد صفوفهم ويجمع كلمتهم على الحق امتثالاً لقول الله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا}، وقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}.
ومتى صلح أفراد المجتمع صلح المجتمع بأكمله. وقد أمرنا الله تعالى في كتابه العزيز بإصلاح أنفسنا ومن تحت أيديناً ممن لهم علينا حق الولاية والرعاية قال تعالى: {فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ}، ويقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته))، وهذه المسؤولية مسؤولية عظمى تقوم على أساس تقويم الأخلاق والسلوك وتهذيب الأنفس وسلامة الفكر مما يشوبه أو يغير مساره عن طريق الحق والصواب.
ومناصحة المسلمين فيما بينهم نوع من الإصلاح الشرعي ومن تعاليم الدين الحنيف، كما قال -صلى الله عليه وسلم-: ((الدين النصيحة)) قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: ((لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)).
والإصلاح يعني: التمسك بتعاليم الكتاب والسنة والوقوف عند حدود الله قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ}؛ فالإصلاح خير للفرد والمجتمع والأمة كلما تحققت وسائله القائمة على تحقيق العبودية لله تعالى، وإقامة الحق والعدل والإحسان والسعي بالمعروف والنهي عن الفحشاء والمنكر، وإحقاق الحق وإبطال الباطل ومحاربة الظلم والفساد.
إذا تحقق ذلك للأمة تحقق لها الأمن والأمان والعيش الرغيد في سلم وسلام، لأن نوازع الشر والفساد إنما تكون بسبب تعطيل واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتنكر للجميل ومتابعة الهوى، واتخاذ رؤساء جهالا ضلوا وأضلوا غيرهم حتى وقعوا في شر أعمالهم. والرسول -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((من دعا إلى هدى كان له أجره وأجر من عمل به إلى يوم القيامة ومن دعا إلى ضلال كان عليه وزره ووزر من عمل به إلى يوم القيامة)).
والإصلاح بين الناس الذي يعني صلاح قلوبهم وعقولهم وزرع المحبة والألفة ونبذ الخلاف والفرقة إنما يقوم على قواعد وأسس شرعية ليس محلاً للهوى. فهو ينطلق من منطلق شرعي في أدلته وأهدافه ومقاصده حتى يؤدي دوره الصحيح في التغيير إلى الأفضل ومن الحسن إلى الأحسن ومن المعصية إلى الطاعة ومن البدعة إلى السنة ومن الظلم والاستبداد إلى العدل والإنصاف. فهذه طرقه المشروعة التي يجب تحقيقها والتأكيد عليها كل على حسب قدرته وطاقته وفي حدود ولايته ومسؤوليته.
وكل سلبية على أرض الواقع يجب تغييرها بالطرق الشرعية لتكون إيجابية وهذا من تبديل السيئة بالحسنة. وهذا واجب الدعاة والأمة والخطباء في المساجد والجوامع وكافة شرائح المجتمع ممن أوتي حظاً من العلم الشرعي كل فيما يخصه حتى تستقيم الحال وينتشر العدل بين الناس ويعم الخير أوطان المسلمين.
من ضوابط الإصلاح
من ضوابط الإصلاح وقواعده تصحيح المفاهيم لدى فئات من المجتمع الذين يعتقدون أن التغيير إلى الأفضل حرية شخصية وأن الأفضل والأحسن والأولى أمر نسبي يختلف تقديره من شخص لآخر حتى عدَّ بعضهم التمسك بالكتاب والسنة تشدداً وجمود وكبتاً للحريات. وجعلوا أمر الحسبة تسلطاً واعتداءً، واستباحة المحرمات من الحريات والمظاهرات والاعتصامات حقاً مشروعاً. والكذب والافتراء على الآخرين من حرية الرأي. وهذا كله قلب للحقائق وسعي للإفساد في الأرض، وتعقيم على الأذهان يصدق عليهم قول الله تعالى: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِّنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ}.
والإصلاح نقلة حضارية للأمة وتقدم ورقي لها في الحياة متى التزم بأساليبه ووسائله المشروعة، وهذه ضرورة شرعية لا يمكن الاستغناء عنها ولا تجاهلها. فعليه قوام الحياة السعيدة أياً كان نوعه ومرتبته، فإصلاح الفرد إصلاح لأسرته وإصلاح الأسرة إصلاح للمجتمع وإصلاح المجتمع إصلاح للأمة بكاملها. فهو إصلاح شامل لجميع مقومات الحياة، ولا بد أن يواكب كل جديد على وجه يحفظ للإسلام عزته ومكانته. حتى يسود الأمن والاستقرار وتحصل المنافع في الدنيا والآخرة. فالخير كل الخير فيما ينفع الناس من الأقوال والأعمال: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الأمْثَالَ}، وقال سبحانه: {لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا}.
وكل إصلاح لا يستند إلى أصل من كتاب أو سنة فمآله إلى الفشل. لأن الله أعلم بمصالح خلقه من أنفسهم. ومحمد -صلى الله عليه وسلم- إنما بعث للعالمين رحمة، ومن رحمته بأمته أنه لا خير إلا دلها عليه ولا شر إلا حذرها منه.
والنهي عن الإفساد في الأرض أمر بالإصلاح والأمر بالإصلاح نهي عن الإفساد يقول -جل وعلا-: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا}،. ويقول سبحانه: {وَلاَ تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}، ولو علم أولئك المفسدون في الأرض خطر الإفساد وما يعود به على الأمة من ويلات وعواقب وخيمة لما تجرؤوا على ذلك، ولكن هناك من يزين لهم سوء أعمالهم فيرون أنهم على حق وهم أبعد ما يكون عنه.
من أراد الإصلاح الحقيقي والشرعي فليأت البيوت من أبوابها ويربط الأمور بمقاصدها ويبحث عن الوسائل والطرق الموصولة إلى الحق والكفيلة بتحصيله، والإسلام أمر بطاعة ولاة الأمر والالتفاف حولهم. فمن أراد الإصلاح فليكن تحت علمهم ودرايتهم وإقرارهم له. لأن ولي الأمر هو أولى من يقدر مصالح المسلمين، والافتيات عليه أو الخروج عن طاعته معول هدم وإفساد.
إلى جانب أن الإصلاح لا بد أن يكون وفق المنهج الشرعي. فإن الشريعة الإسلامية إنما جاءت لتحقيق مصالح العباد في العاجل والآجل. وهذا هو المقصد العام من التشريع. ومن خرج عن هذا المنهج فقد حاد عن طريق الحق والصواب.
كذلك لا بد أن يكون الإصلاح مما يدل عليه العقل السليم ويمكن تحقيقه. لأن الدعوة إلى الأمر المستحيل يورث كثيراً من الخلاف والنزاع، فإذا أردت الأمر أن تطاع فأمر بما يستطاع والله -جل وعلا- لم يكلف العباد إلا بما يستطيعون {فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}، {لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا}، فإذا كان هذا في حق الله -عز وجل- فكيف يليق المخلوق المطالبة بما لا يمكن تحقيقه أو ما يترتب على تحقيقه مشقة وضرر.
وهذا يفرض على من أراد الإصلاح والمطالبة بشيء من الحقوق أن يفكر أولاً في جدوى هذه المطالبة ومدى تحقيقها وآثارها الإيجابية قبل إعلانها والمناداة بها. وقد قيل طلب الكمال صعب المنال.
ويقول الشاعر:
إذا لم تستطع أمراً فدعه *** وجاوزه إلى ما تستطيع
كما أن إزالة المنكر من باب الإصلاح مشروط بالاستطاعة حسب القدرة باليد أو اللسان أو القلب، كما أرشد إلى ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم-، بل متى ترتب على إنكار المنكر ضرر أشد منه فتركة أولى من باب ارتكاب أخف الضررين.
إذاً المطالبة بالإصلاح لها ضوابط وحدود لا بد من توافرها لأن المطالبة العشوائية غير المدروسة تنقلب إلى ضدها وتفسد أكثر مما تصلح، والمصلح لابد أن يكون حكيماً في طلبه والحكيم هو الذي يضع الأشياء في مواضعها.
ثم إن الإصلاح ليس على درجة واحدة. ولا ينظر إليه من زاوية ضيقة. فهناك أمور هي أهم من غيرها، فمثلاً ما يحقق المصلحة العامة أولى مما يحقق المصلحة الخاصة، يعني أن ما يمس حاجة الأمة والمجتمع أولى مما يمس حاجة الفرد. وما يسهل تحقيقه دون تبعات أولى مما يصعب تحقيقه أو يكون له تبعات سلبية. وما يعود بالمصلحة على المجتمع في الضروريات أو الحاجيات أولى من التحسينات والعادات. وهكذا فالإصلاح درجات بعضها أولى من بعض وعند التنفيذ يبدأ بالأهم فالأهم كما أن الإصلاح الذي يؤدي إلى استنزاف الموارد المالية قد يضر بمقومات الحياة الضرورية، فلا بد من التوازن في التنفيذ وعدم التهور والمبالغة فيما يمكن الاستغناء عنه.
ومن يطالب بالإصلاح لابد أن يكون عارفاً بقدرات بلده ومقدراتها ومواردها حتى لا يكلفها ما لا تطيق. وطلب الإصلاح غير المدروس من حيث ما له وما عليه قد تكون نتائجه عكسية. بسبب ما قد يحمل الدولة من أعباء مالية وكوادر بشرية.
ومتى توفرت شروط الإصلاح واستكمل ضوابطه الشرعية فإن نتائجه بإذن الله ستكون إيجابية. خاصة إذا حسنت النوايا والأهداف. وواقعنا اليوم يشهد ولله الحمد كثيراً من الإصلاحات التي تمت في سنوات معدودة في عدة مجالات وفي كافة الجوانب الدينية والثقافية والفكرية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والإعلامية بما يحقق المقاصد الشرعية ويواكب متطلبات العصر، وما تلك التوسعة المباركة التي يشهدها الحرم المكي والمدني إلا نوع من الإصلاح الذي يحقق المقصد الشرعي للأمة الإسلامية كافة في أداء عبادتها.
وما تلك التوسعة في طرق المواصلات التي تشهدها البلاد إلا من الإصلاح المحلي الذي يحقق الراحة لكافة أطياف المجتمع وما هذا التوسع المالي في البنوك والمصارف إلا دفعة اقتصادية أفضل من ذي قبل، وما زيادة عدد الجامعات والمعاهد العلمية والمهنية إلا من باب الإصلاح الثقافي والمعرفي.
وهكذا نرى البلاد والحمد لله تواكب العصر الحديث في الجانب العلمي والحضاري كلما وجدت إلى ذلك سبيلاً. ولم تدخر وسعاً في تحقيق ما هو في مقدورها من الإصلاحات التي تعود على المجتمع السعودي بالخير العميم والراحة والطمأنينة.
ومن رأى ليس كمن سمع.. فالإصلاح والسعي إليه غاية وهدف إذا توفرت شروطه وانتفت موانعه.
ومتى جانب طلب الإصلاح طرقه المشروعة فإن سلبياته أكثر من إيجابياته إن كان له إيجابيات. فهو لا يكون ولا يتم بطريق الفوضى والاضطراب والمظاهرات والاعتصامات والمهاترات والسخرية والاستهزاء والسب والشتم والذم، فكل هذه السبل تعد من موانع الإصلاح ومعوقاته وهي تورث المفاسد والقلاقل والخلاف والشقاق وتسبب الحقد والضغائن في النفوس، والكراهية وشماتة الأعداء والتحزب والتناحر وانقسام المجتمع على نفسه وغير ذلك من المفاسد التي سببها العجلة وعدم الرؤية وقلة الحكمة والاندفاع الشديد.
ومن هنا يمكن القول: إن هناك إصلاحاً ممدوحاً وإصلاحاً مذموماً، فمتى كان الإصلاح منضبطاً بضوابط الشرع مبنياً على العلم والحكمة لا يرد حقاً ولا يقر باطلاً ولا يعين ظالماً ولا يدعو إلى فتنة أو حرج ومشقة ولا يلحق الضرر بالمصلحة العامة وإنما يحقق الخير للناس كافة، فهو إصلاح ممدوح ومرغب فيه.
وأما إذا كان الإصلاح عكس ذلك يثير الفتنة ويدعو إلى التحزب والفوضى أو تعدٍ على حق الغير أو تعطيل مصلحة راجحة أو فيه استنزاف لأموال الدولة فهو إصلاح مذموم.
ثم إن الإصلاح واجب على كل مسلم حاكم أو محكوم كل على حسب قدرته واجتهاده. لعموم النصوص الواردة في الكتاب والسنة، وكل فيما يخصه فرب الأسرة عليه الإصلاح في أسرته وهكذا كل مسؤول عليه جانب الإصلاح فيما تحت يده. حتى الأفراد عليهم واجب إصلاح أنفسهم، فمن لم يسع إلى إصلاح نفسه كيف يطالب بإصلاح غيره. وصدق الله تعالى إذ يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللهِ أَن تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ}.
ويقول قائلهم:
يا أيها الرجل المعلم غيره *** هلا لنفسك هذا التعليم
كما أن عدم الإصلاح مع القدرة عليه غش للنفس وللرعية كما جاء في قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة)).
ومتى تحققت الحاجة للإصلاح وتوفرت شروطه وانتفت موانعه فلا مانع من إعلانه عبر وسائل الإعلام المختلفة، وهذا من باب النصيحة إذا أمنت الفتنة. لأن رسالة الإعلام تفرض بيان الحق للناس وإشاعة الفضيلة، وتحقيق مصالح الأمة.
ومن جانب آخر التحذير من التهور بحجة الإصلاح وبيان ما يترتب على ذلك من عواقب وخيمة. والدعوة إلى جمع الكلمة ونبذ الفتنة والالتفاف حول الأئمة والعلماء فإن ذلك هو الإصلاح بعينه الذي يحقق المحافظة على ضرورات الحياة كالنفس والعقل والمال والعرض وقبل ذلك المحافظة على هذا الدين الذي ارتضاه الله لنا وأتم علينا به النعمة. فإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
ــــــــــــــــ
*الأستاذ بالمعهد العالي للقضاء وعضو مجلس الأمناء في الجامعة الإسلامية العالمية في بنغلادش.
** المصدر: صحيفة الجزيرة السعودية.