الشيخ علي الطنطاوي
تواردت الخواطر والأقلام هذه الأيَّام على نقد أساليب الوعَّاظ في الدعوة إلى الله؛ فساء ذلك بعض الواعظين عندنا، ولو فكَّروا في مغزاه وما يلزم منه لسرَّهم، ولعلموا أنه لولا الاعتراف بخطر الوعظ وأهله، ومنزلتهم من الأمَّة، وعلوّ قدرهم عند العامَّة – ما كتب في “الرسالة” عنهم، ولا اشتغل الكتاب بنقدهم.
ثم إن أول ما ينبغي أن يتحلَّى به الواعظ: أن يبدأ بنفسه فيعظها، وأن يخلص قوله لله وعمله، وأن يفرغ من شهوات نفسه؛ فلا تملكه شهوة الشهرة والجاه، ولا شهوة الغنى، ولا شهوة النساء، وأن يكون في فعله أوْعَظ منه في قوله، فلا يأمر الناس بالزهد ثم يخالفهم إلى ما زهَّدهم فيه، فيزاحم المتكالبين عليه! ولا يتظاهر بالدين ابتغاء الدنيا وتوصُّلاً إليها؛ فيجمع من حوله العاملين على الكسب الحلال، والجادِّين في جمع المال من حِلِّه، ليأخذ من أموالهم ما يتعالى به عليهم، وليذوق لذائذ العيش من عطاياهم، وليسلبهم فوق ذلك حريتهم وعقولهم وكرامة أنفسهم عليهم، فيصرفهم في مآربه، ويسيرهم حيثما شاء، ويذلهم بين يديه ليستكبر عليهم، ويجعل الدين وسيلةً إلى ذلك، فيجعل طاعة نفسه من طاعة الله؛ بَلْ رُبَّما جعل نصيبَها من هذا الشرك أكبر -والعياذ بالله- من ذلك.
ولقد حدَّثني مَنْ أقطعُ بصِدْقه: أنه سمع مرَّةً واعظًا من هؤلاء (يقصُّ) على تلاميذه قصة مُريدٍ سمع شيخه يقول: “يا الله”، ثم يمشي -زعم القاصُّ- على وجه الماء الجاري، فسأله أن يتبعه، فقال له الشيخ: “قل يا شيخي فلان -يعني الشيخ نفسه- ثم اتبعني؛ فإنك تمشي مثلي!”. ففعل المُريد ذلك، وتابعه أيامًا، ثم خطر له -يقول الواعظ- أن يقول: (يا الله)، مكان قوله: (يا شيخي)، فقالها؛ فغرق في الماء، ومات!.
فهل يشكُّ مسلمٌ في أنَّ هذا الوعظ مخالِف للإسلام، مُباينٌ له؟ وهل يغضب الواعظ العالم الصادق أن ينتقد الواعظ الجاهل المُمَخْرق الكذَّاب؟
أوليس من دأب الواعظ الصادق أن يتقبَّل النصيحة ويشكر عليها ويعمل بها، وأن يتخلص من شرور نفسه قبل أن يتصدَّر للوعظ والإرشاد، حتى يكون الإسلام هو الذي يتكلم على لسانه، وحتى يتوهم السامعون أن مَلَكًا هو الذي يعظهم، أو جسدًا إنسانيًّا ضمَّ رُوحَ مَلَك من الملائكة، قد ارتفع عن شهوات الأرض ليتصل بكمالات السماء، وأنه لا يزهِّدهم في دنياهم ليحوزها من دونهم؛ فإن أنسوا منه غير ذلك زهدوا فيه هو وفي وعظه؟!
كان في مسجدٍ من مساجد دمشق خطيبٌ جهير الصوت، طَلْق اللسان، معتزل مستور، يعتقد الناس إخلاصه ودينه وتخطيه أهواء نفسه، ماشيًا قُدُمًا على صراطه المستقيم، صعد المنبر جمعةً من الجُمَع، فاستهلَّ خطبته بآية من القرآن فيها وعيدٌ للكافرين شديد، ومضى من بعدها يبرق ويرعد، ويسوق الجُمَل آخذًا بعضها برقاب بعض، وكلها من (كفر يكفر…)! حتى إذا ظن أن أقنع وأشبع، وملأ نفوس السامعين سخطًا وغضبًا – عمد إلى التصريح بعد التلويح، فإذا الذي انصبَّت عليه هذه الحمم، ونالته رجوم الشياطين (رجلٌ تجرَّأ على دين الله، فتكلَّم في الدَّاعين إليه، والدَّالين عليه، ومَنْ رضي عنهم الله وعقلاء خلقه: خطباء المساجد).
فلما قضيت الصلاة استقرى الناس الخبر، فإذا هو صاحب جريدة، كتب مقالاً معتدلاً في الدعوة إلى إصلاح الخطب المنبرية، فبعث الخطيب بمقالة يردُّ بها عليه؛ فلم ينشرها، وإنما أشار إليها؛ فكان جزاؤه أن تكون الخطبة في ذَمِّه وتكفيره!.
فانصرف الناس من يومئذٍ عمَّا كانوا يعتقدون في الخطيب، ولم يعد يبلغ وعظه ذلك المبلغ من نفوسهم، وجعلوا يرون فيه خطيبا له (نفس)، وهيهات ينفع واعظ أو خطيب له (نفس)!.
فتعالوا أنبئوني: من الذي جعل المنبر مِلْكًا لهذا الخطيب، يتصرَّف فيه تصرُّفه بثوبه ودابته، ويجعله سُلَّمًا له إلى شهرته وشهوته، وهذا المنبر إرثُ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – والخطيب خليفته في الدعوة إلى دين الله واطِّراح النفس والهوى؟
ألم يَرْوِ الرواة أنَّ عليًّا أمير المؤمنين -رضي الله عنه- كان يتبع مشركًا في المعركة ليقتله، فلما أَيِسَ المشرك من الحياة؛ تلفَّت إلى علي فبصق على وجهه! فكفَّ عنه عليٌّ، فقيل له، فقال -رضي الله عنه-: “كنتُ أنوي قتله لله وحده، فلما بصق عليَّ خِفْتُ أن يكون قد داخلني غيظٌ منه؛ فخشيتُ أن يكون قتله انتصارًا لنفسي، فلذلك كففتُ عنه”.
أليس في هذا الخبر -وإن لم يأتِ عن الثقات- عبرةٌ وأسوةٌ للواعظين؟
وكيف أستطيع الاتعاظ بالخطيب الذي جاء في خطبته مرَّةً بحديث موضوع، فلما انتهت الصلاة وتفرَّق الناس أقبل عليه شابٌّ من المشتغلين بالحديث[1] والمنقطعين إليه، فذكَّره بأن ذلك الحديث موضوعٌ لا أصل له، فما كان منه إلا أن رجع من الجمعة المقبلة؛ فجعل خطبته في هذا الشاب وأصحابِه (الوهَّابيين أعداء الرسول…)، وأثار عليهم العامَّة حتَّى نالَهم شرٌّ وأذًى، فأين مكان الإخلاص من نفس هذا الخطيب؟!
إن أول شرط للواعظ أو الخطيب: أن يكون مخلصًا في وعظه لله.
والشرط الثاني: أن يكونَ عالمًا بالعربية، عارفًا بالتفسير، والحديث روايته ودرايته، والفقه أصوله وفروعه، وإلا كان وبالاً على الدين وأهله.
ولقد أدرَكْتُ -واللهِ- من العامَّة مَنْ كان يكوِّر العمامة، ويُطيلُ اللِّحية، ثُمَّ يَقْعُد للتدريس في مسجد دمشق الجامع، فيقولُ ما شاء له الجَهْلُ والهَوى، ويَجعَلُه دينًا، والمفتي والقاضي والعُلماءُ يَمرُّون عليه أو يَعْلَمُون به فلا يُنْكِرون عليه، ولو اعتدى هذا الرجل على جبَّة أحدهم لأقام عليه الدنيا. أفكان الدّين أهْوَن على أحَدِهم من جُبَّتِه؟!
وأدرَكْتُ عاميًّا آخَرَ ذكيًّا، خَدَع طائفةً من أذْكِياء البلد وعلمائه؛ فاعتقدوا به، وتأدبوا بين يديه، وأخذوا عنه تفسير الآثار.
وأعجبُ من هذا: رجلٌ يدَّعي النبوَّة، يقيم الآن[2] في غوطة دمشق، وقد آمن به أكثر فلاحي قرية (حرستا)، ولقدْ أخْبَرَني مَنْ شهِد صلاتَه بأصحابه أنَّهم يُقَهْقِهون ويُكَرْكرون كلَّما جاءت آيةُ نعيم، ويتصايَحُون مُسْتبشرين، ويهنئ بعضهم بعضًا، وأنه يبكون منتحبين مولولين كلَّما سمعوا في الصلاة آية عذاب، وربما (أخذ بعضهم الحال) فقفز في الصلاة، أو صاح، أو التبط بالأرض!.
ولهذا المتنبي أو (المتمهدي) ضريبةٌ دائمةٌ على أصحابه، يؤدُّونَها إليه باسم الزكاة، فيشتري بها العقارات والحقول[3]!.
والشرط الثالث: حُسْن الأسلوب في الوعظ، ومخاطبة الناس على قدر عقولهم، وابتغاء طريق اللين واللطف، وللواعظين أسوة في ذلك بسيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولهم من سيرته قدوة صالحة، فأين هم عنها؟!
ولكنَّ أكثر مَنْ عرفنا منهم لا يعرفون إلا أسلوب العنف الذي يبعد الناس عن الدين، ويغلظ قلوبَهم عليه، وينفرهم منه، فلا يرون في مَجالسهم شابًّا من تلاميذ المدارس -مثلاً- إلا جعلوا الموضوع في تفسيق مَنْ يحلق لحيته، ومَنْ يتشبَّه بالنساء، وأمثال ذلك، حتى تأكل هذا الشاب الأنظار، فيغرق في عرقه خجلاً، ثم لا يَعود إلى المسجد أبدًا! ولو أنَّهم حاسنوه وجاملوه لكان من المتَّقين.
حضر درس الشيخ (بدر الدين) -رحمه الله تعالى- شابٌّ حليق حاسر، من شبان (الموضة)، وكان الشَّيخ على عادته مطرقًا؛ فقال له أحد الثقلاء من الحاضرين: “سيدي، ما حكم الشّبَّان الذين يتشبَّهون بالنساء، ويَتَزَيُّون بزيِّ الكفار؟”؛ فأدرك الشيخ بذكائه النادر أنَّ في المجلس غريبًا، فرفع رأسه فلمح الشاب، فدعاه فأجلسه بجواره وأكرَمَه، وقال للسائل مؤنِّبًا بأسلوبه الناعم: “يابا… هذا يُتبَارَك به”؛ يعني: أنَّ شابًّا مثله يطلب العلم ويؤمّ مَجالسه، ويستهدي الطريق إلى الله – أهلٌ لأن يتبرَّك به أمثال ذلك الثقيل، الذين (قطعوا الطريق) إلى الله بغلظتهم وغباوة قلوبهم.
والشرط الرابع: هو أن يعلم الواعظون أنه ليس في الإسلام طبقة هي أولى بالله من طبقة، وليس بين العبد وربه وسيطٌ، فإذا علموا ذلك اقتصدوا في تكفير الناس لأتفه الأسباب، وراجعوا الآثار الواردة ليعلموا حقيقة الكفر والإيمان، فلا يرمون بالكفر كلَّ مَنْ خالفهم في رأي أو ناقشهم في مسألة، فقد يكون لها وجوه، ولا يصدرون مثل الكِتاب الذي أصدره منذ بضع سنين عالم معروف في دمشق، كان أصدر قبله بأكثر من عشر سنين كتابًا آخر، كفر فيهما كلَّ مَنْ يقول بحركة الأرض، وكفَّر الشيخ محمد عبده والسيد رشيد رضا؛ وردَّ أشنع الردِّ على ابن حزم والشيخ محمد بخيت المطيعي -رحم الله الجميع- وأخذ بقوله بعض خطباء المساجد؛ فكفَّروا على المنابر مَنْ يقول إن الأرض دائرة حول الشمس. ولا نسمع أحدًا يجعل قيامك للضيف يدخل عليك كالسجود له سواء حكمهما؛ لأن كلاًّ منهما – على دعواه – من أركان الصلاة، استويا في ذلك، ونسي أن القعود أيضًا من أركان الصلاة، أفيحرم قعودك بين يدي صديقك أو أستاذك؟!
والخطابة يوم الجمعة من أكبر أبواب الوعظ، فإذا صلحت صلح بصلاحها فساد الأمة، وإن فسدت أفسدت. فمتى يتم تنظيم الخطابة؛ بحيث يختار لها الكفء العالم، ويُعدل عن طريق الوراثة فيها؛ فلا تنتقل بعد الخطيب إلى ابنه الصغير الذي لا يُدرى ما يكون منشؤه ومرباه، ويُقام له وكيلٌ رسميٌّ؛ بل يعلن عن الخطابة الخالية، ويجعل بين الطالبين سباق وامتحان، ثم ينتقى أقدرهم عليها وأصلحهم لها. ولو كانت وراثة لورَّثها أبو بكر ابنه، ولدفعها عمر إلى وَلَده؛ فمن أين جئتم بهذه القاعدة الواهية؟! فإذا تم الاختيار على ما ترتضي المصلحة الإسلامية؛ أُخِذ الخطيب بنوع رقابة أو إشراف، يمسكه أن يحيد فيختار من الموضوعات ما يؤذي المسلمين، أو يكون فيه منفعة للخطيب شخصية، ويجعله ينتقي أقرب الموضوعات لأحداث الأسبوع، فيبيَّن فيها حكم الله، ويأمر فيها بالمعروف وينهى عن المنكر، بشرط أن يقوم بهذه الرقابة جماعة العلماء أنفسهم، وألا تمنع إلا ما يخالف الإسلام ومصلحة المسلمين، وألا تمسَّ حرية الخطيب فيما عدا ذلك، وإذا تم الحصول على هذه الثمرات من غير رقابة أصلاً؛ فذلك هو الأولى، وهو ما عليه المسلمون من قديم الزمان.
هذا وإن الموضوع خطير، ومجال القول فيه ذو سَعَة، والواعظون العالمون الصادقون أحقُّ الناس بالكتابة فيه، فإن صاحب الدار أدْرَى بما فيها، وأحسن شيءٍ أن يُعطى القوس باريها، وإننا نسأل الله أن يجعلنا من أهل الإخلاص.
______________________
[1] صار هذا الشاب اليوم بدأبه على الدرس واشتغاله به مرجعًا من المراجع في رواية الحديث في بلاد الشام.
[2] أي حين كتابة هذا المقال [سنة: 1941].
[3] ثم انكشف أمره عن فضائح له مع عشرات النساء؛ فأودع الحبس.
المصدر: المختار الإسلامي.