محمد العروسي
نزل القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وسلم ليبلغه للناس كافة عربيهم وأعجميهم صغيرهم وكبيرهم، غنيهم وفقيرهم، خاطب المرأة والرجل على حد سواء، ولم يميز بين الخلق إلا في درجة الإخلاص وتقوى اللَّه عزَّ وجلَّ.
والعامل للإسلام بجب أن يتأسى بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم وهو يمارس الدعوة إلى اللَّه، فيستقي منه المنهج الذي يجب أن يسير عليه لينير خطواته بنور القرآن.
وأريد في هذه الوقفة أن أتعرض إلى خاصية من خاصيات هذا المنهج النبوي القويم، فلقد كان -صلى الله عليه وسلم- لا يخص شريحة من الناس بدعوته دون أخرى؛ فلا يخص نخبة المثقفين مثلاً دون غيرهم باهتمام خاص فيوثق صلته بهم أكثر من غيرهم، ولا يجعل للأغنياء حظاً أكبر من الرعاية، ولا قبيلة دون غيرها ميزة خاصة.. وإنما كان يعمم دعوته على العالمين: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]، ثم يوزع الأدوار على من استجاب للقيام بواجب التبليغ بشكل متناسق متكامل للنهوض بالمسؤولية المشتركة.
أما ما ذكر عن سرية الدعوة وخصه قرابته -صلى الله عليه وسلم- بالدعوة في المرحلة الأولى؛ فكان ذلك بتوجيه رباني، ولحكمة ربانية وأسباب إستراتيجية تهدف لحماية الدعوة الناشئة، لذلك لم تستمر هذه المرحلة طويلا، حتى أمر عليه الصلاة والسلام بالصدع بالوحي، وهو لفظ يدل بوضوح كبير على عمومية من يجب أن نتوجه إليهم بخطاب الإسلام؛ بل في كل مرحلة قطعها -صلى الله عليه وسلم- كان هناك تعميم لما خصص منها.
جاء في صحيح مسلم: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ لَمَّا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قُرَيْشًا فَاجْتَمَعُوا فَعَمَّ وَخَصَّ فَقَالَ: « يَا بَنِي كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا بَنِي مُرَّةَ بنِ كَعْبٍ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا بَنِي هَاشِمٍ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا فَاطِمَةُ أَنْقِذِي نَفْسَكِ مِنَ النَّارِ فَإِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، غَيْرَ أَنَّ لَكُمْ رَحِمًا سَأَبُلُّهَا بِبَلاَلِهَا».
وتلت هذه المرحلة حقبة أخرى وجب التوجه فيها للجميع حيث يقول ابن إسحاق: «ثم دخل الناس في الإسلام أرسالاً من الرجال والنساء، حتى فشا ذكر الإسلام بمكة، وتحدث به. ثم إن اللَّه عزَّ وجلَّ أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يصدع بما جاءه منه، وأن يبادي الناس بأمره ، وأن يدعو إليه ؛ وكان بين ما أخفى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أمره واستتر به إلى أن أمره اللَّه تعالى بإظهار دينه ثلاث سنين فيما بلغني من مبعثه».
هكذا نزل التوجيه الإلهي إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حاسماً قاطعاً: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الحجر: 94]، فتوجه إلى مكة مجتمعة، من أقطارها إلى أقطارها، ومن أسواقها إلى أنديتها، يدعو الغافلين ويحرك القلوب النائمة معلناً للجميع أنه لا إله إلا اللَّه وأنه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.
تقودني هذه المقدمة إلى القول بأن دعاة الإسلام عليهم أن يلتفوا مع بعضهم البعض في صف واحد، وأن يتمثلوا الساحة الإسلامية بعمومها، بمختلف طاقاتها وأصنافها، وألا يغيب عنهم الهدف الأساسي من الدعوة وهو توثيق الصلة باللَّه عزَّ وجلَّ وكسب رضائه.
هذا الرضا الذي يقاس بدرجة الإخلاص والتقوى ولا يقاس بالمركز الاجتماعي والدرجة العلمية أو غيره من المقاييس التي يحددها الناس في حياتهم الاجتماعية. علينا إذن أن ندرك ونحن نعمل في الساحة الإسلامية أن كل واحد منا ميسر لما خلق له، وإذا أخلص النية وهو يدعو إلى اللَّه عزَّ وجلَّ فإنه سيفيد العمل الإسلامي بإذن اللَّه، وسيضع لبنة مثمرة في صرح الدعوة: طالب العلم والمتخرج من الجامعة مع العامل في المصنع والزارع في المزرعة، كل له دوره الحيوي الفعال في مجالات العمل الإسلامي المعاصر. تلك هي سنة اللَّه، لا يمكن لفرد أن ينهض بالواجب الجماعي بمفرده مهما كان مبلغه من العلم ومهما بلغ من الثراء والجاه والسلطان.
ومن الأمثلة العملية التي يمكن أن أسوقها من الساحة الأوربية دور “الطبقة العاملة” فيما يتعلق مثلاً بإنشاء المؤسسات الإسلامية وتعميرها، هذه الصروح التي غدت الآن حصوناً تحمي الهوية الإسلامية، والتي من غيرها ما أمكن للدعاة من وعاظ وعلماء ومشايخ من اعتلاء منابر الدعوة، والتي من غيرها ما أمكن لنا جمع آلاف من النشء المسلم لتعليمهم الإسلام وتربيتهم عليه. ورغم ذلك نجد من يجرؤ على تهميش دور هؤلاء الأبطال الذين رسخوا وجود الإسلام في الغرب بمساهمتهم في تكوين هذا النسيج من المؤسسات، ببذل المال وتقديم الرعاية والصيانة، وإحياء ذكر اللَّه في المساجد والجمعيات والمراكز، وهو عمل سيبارك فيه اللَّه تعالى، وسيكون لبنة في مستقبل إسلامي بهيج في الغرب.
إن مثل هذا الجهد هو الذي جعل الإسلام ظاهراً حاضراً في الحياة الاجتماعية في الغرب.
إن الداعية الذي حباه اللَّه بقسط من العلم والثقافة إن انقطع عن جماهير الدعوة فلن يحاور إلا نفسه، ولن يستفيد من علمه أحد، في حين أن من واجبه أن يبلغ ما علم. وإن كثيراً من المشتغلين بالفكر والثقافة يسجنون أنفسهم في “سجن فكري” يحاورن فيه أنفسهم، لا يتعدون طرح النظريات الفكرية المجردة من الواقع. ومن العجز أن يطرح المرء نظرية أو أن يقدم حلاً، ثم يكون عاجزاً عن تجسيده، وبعث مقومات الحركة والحياة فيه.
ومثل المفكر الذي ينأى بنفسه عن الجماهير بحجة أن عمله يجب أن يكون في دائرة المثقفين فقط، كمثل المهندس البارع الذي توقفت به السيارة في الطريق، فبقي أمامها محتاراً ينتظر قدوم العامل الميكانيكي ليخرجه من مأزقه، عجزت أفكاره عن أن تصلح السيارة، وهو ما أدركه أجدادنا، فدرج عندهم المثل الشعبي: “اسأل مجرباً، ولا تسأل طبيبا”.
إن مسؤولية التبليغ لتقع بالدرجة الأولى على القادر عليها، وعليه أن يفقه حسن التبليغ، وأن يتعلم فنونه متأسياً بمنهج المصطفى عليه الصلاة والسلام. فلا يجوز للمثقف أن يغفل شريحة من جماهير الدعوة فلا يخصها بالخطاب أو يعتقد بعدم جدوى دلك.
ألم يُؤمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بمخاطبة العالمين، فكان يدعو القبائل والناس أجمعين على اختلاف درجاتهم، وكان يعلم الصبيان والكبار والنساء والرجال، وكان يبسط الحديث حتى يفهمه الجميع.
إن مستقبل الدعوة مرهون بقاعدتها الجماهيرية الواسعة التي تعطيها المصداقية من جهة والقوة والحصانة من جهة أخرى. ولا يمكن لهذه القاعدة أن تتوسع وتكون أجزاؤها ملتحمة إلا إذا التقى أفرادها على مختلف اختصاصاتهم في صف واحدٍ وخطاب واحدٍ.
—–
المصدر: مجلة الرائد – العدد: 245.