د. رمضان فوزي بديني (خاص بموقع مهارات الدعوة)
تعددت المحاولات لعزل الدين وحبسه داخل جدران المعابد وعدم نزوله لدنيا الناس، لكن أثبت التاريخ والواقع أن كل هذه المحاولات باءت بالفشل، وظهر بطلان كل المذاهب الأرضية الوضعية في مقابل شريعة الله الذي يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير.
فمن ذلك ما حاوله العلمانيون على مر العصور والأماكن من إبعاد الدين عن السياسة والفصل بينهما فصلا تاما، من خلال التشريعات المقيدة لحركة الدين، والتضييق على كل من يتبنى برنامجا أو مشروعا دينيا حضاريا..
وهؤلاء يدركون أنه لو تركت الفرصة للدين ليتفاعل مع حياة الناس ومعاشهم؛ لتغيرت دنيا الناس ولاختفى الكثير من المظاهر السلبية الناجمة عن الخلل البشري البعيد عن منهج الله تعالى الذي أنزل دينه وشريعته ليسوس الناس في حياتهم ومعاده، وصدق سبحانه إذ قال: {أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (الملك: 14).
وهذا ما عبر عنه الإمام الشاطبي بقوله: “المصالح التي تقوم بها أحوال العبد لا يعرفها حق معرفتها إلا خالقها وواضعها، وليس للعبد بها علم إلا من بعض الوجوه، والذي يخفى عليه منها أكثر من الذي يبدو له، فقد يكون ساعيًا في مصلحة نفسه من وجه لا يوصِّله إليها، أو يوصِّله إليها عاجلا لا آجلا، أو يوصِّله إليها ناقصة لا كاملة، أو يكون فيها مفسدة تُربي -في الموازنة- على المصلحة، فلا يقوم خيرها بشرها.
وكم من مدبر أمرًا لا يتمُّ له على كماله أصلا، ولا يجني منه ثمرة أصلا، وهو معلوم مشاهد بين العقلاء، فلهذا بعث الله النبيين مبشرين ومنذرين، فإذا كان كذلك فالرجوع إلى الوجه الذي وضعه الشارع، رجوع إلى وجه حصول المصلحة والتخفيف على الكمال بخلاف الرجوع إلى ما خالفه” (الموافقات في أصول الشريعة: 1/349).
وهذا يؤكد على أهمية تطبيق شرع الله تعالى في الحياة السياسية، لضبطها بالقسط الإلهي الذي لا يظلم ولا يحيف؛ فالدين والسياسة صنوان لا ينفصلان، ولا يستغني أحدهما عن الآخر؛ فالعلاقة بينهما علاقة تكامل وتعاضد وليس تنافر وتباعد، والمتدبر لآيات القرآن وسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم القولية والعملية بفهم دقيق وفكر عميق يقف على هذا الترابط الوثيق، الذي لا يسمح المقام هنا بالاستطراد فيه.
ويؤكد على هذا المعنى الدكتور يوسف القرضاوي إذ يقول في خاتمة كتابه الماتع في هذا المضمار “الدين والسياسة”: “لا انفصال للسياسة عن الدِّين، ولا للدين عن السياسة. وإن من الخير أن يدخل الدِّين في السياسة فيوجهها إلى الحق، ويرشدها إلى الخير، ويهديها سواء السبيل، ويعصمها من الغرور بالقوة، والانحراف إلى الشهوات، ويمد أصحابها بالخشية من الله، ولا سيما أن السلطة تغري بالفساد، والقوة تغري بالفجور والطغيان: {كَلا إِنَّ الإنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} (العلق: 6، 7).
ومن الخير كذلك أن تدخل السياسة في الدِّين، لا لتتخذه مطية تركبها، أو أداة تستغلها، ولكن لتجعله قوة هادية تضيء لها طريق العدل والشورى والتكافل، وقوة حافزة تبعثها لنصرة الحق، وفعل الخير، والدعوة إليه، وقوة ضابطة تمنعها من اقتراف الشرور، والإعانة على الفجور”.
ثم يعقب على خصوصية الدين الإسلامي في هذا الأمر: “وإذا كان هذا يقال في الأديان بصفة عامة، فإن الإسلام -بصفة خاصة- لا يقبل هذا الفصام بين الدِّين والسياسة، أو بين العقيدة والشريعة، أو بين العبادات والمعاملات، أو بين المسجد والسوق، أو بين الإيمان والحياة.
وهذا ما مضى عليه تاريخنا ثلاثة عشر قرنا أو تزيد، حتى دخل الاستعمار الغربي بلاد المسلمين، وتحكَّم في مصايرها، وملك أزِمَّة التشريع والتثقيف والتعليم والإعلام، التي توجه حياتها، وتلونها كما تشاء”.
“ضلالة” فصل الدين عن السياسة
عبر الشيخ محمد الخضر حسين عن فصل الدين عن السياسة بالـ”الضلالة” حيث كتب مقالا حول هذا المعنى –منشور في كتابه “رسائل الإصلاح”، رد فيه هذه التخرصات والشبهات، ومما قاله في هذا السياق:
“نعرف أن الذين يدعون إلى فصل الدِّين عن السياسة فريقان:
1. فريق يعترفون بأن للدين أحكاما وأصولا تتصل بالقضاء والسياسة، ولكنهم يُنْكرون أن تكون هذه الأحكام والأصول كافلة بالمصالح، آخذة بالسياسة إلى أحسن العواقب. ولم يبال هؤلاء أن يجهروا بالطعن في أحكام الدِّين وأصوله، وقبلوا أن يسميهم المسلمون ملاحدة؛ لأنهم مُقِرُّون بأنهم لا يؤمنون بالقرآن ولا بمن نزل عليه القرآن.
2. ورأى فريق أن الاعتراف بأن في الدِّين أصولا قضائية وأخرى سياسية، ثم الطعن في صلاحها، إيذان بالانفصال عن الدِّين، وإذا دعا المنفصل عن الدِّين إلى فصل الدِّين عن السياسة، كان قصده مفضوحا، وسعيه خائبا، فاخترع هؤلاء طريقا حسبوه أقرب إلى نجاحهم، وهو أن يَدَّعوا أن الإسلام توحيد وعبادات، ويجحدوا أن يكون في حقائقه ما له مدخل في القضاء والسياسة، وجمعوا على هذا ما استطاعوا من الشُّبه، لعلهم يجدون في الناس جهالة أو غباوة فيتم لهم ما بيتوا.
هذان مسلكان لمن ينادي بفصل الدِّين عن السياسة، وكلاهما يبغي من أصحاب السلطان: أن يضعوا للأمة الإسلامية قوانين تناقض شريعتها، ويسلكوا بها مذاهب لا توافق ما ارتضاه الله في إصلاحها. وكلا المسلكين وليد الافتتان بسياسة الشهوات، وقصور النظر عما لشريعة الإسلام من حِكَم بالغات.
أما أنَّ الإسلام قد جاء بأحكام وأصول قضائية، ووضع في فم السياسة لجاما من الحكمة، فإنما ينكره من تجاهل القرآن والسنة، ولم يحفل بسيرة الخلفاء الراشدين، إذ كانوا يزنون الحوادث بقسطاس الشريعة، ويرجعون عند الاختلاف إلى كتاب الله أو سنة رسوله.
وبعد فهذه إلماحات سريعة في هذا الموضوع الذي يحتاج إلى مطولات لإيفائه حقه..