د. عصام الفليج
يعيش الدعاة إلى الدين (الدعاة الصادقون لأي دين) صراعات عديدة، صراعاً مع المجتمع ومتطلباته، وصراعاً مع الأجيال المتغيرة واحتياجاتهم، وصراعاً مع أسرته التي تفتقده لانشغاله بالدعوة (وقد لا تلتزم بمعتقداته وآرائه)، وصراعاً مع الأحزاب السياسية والدينية، وصراعاً مع الحكومة التي تحاربه تارة، وتدعمه تارة، وتستخدمه تارة أخرى، وصراعاً مع الحاجات النفسية الفطرية من مأكل ومشرب وملبس وزواج وترفيه وممارسة هواياته، وعمل (تجارة أو وظيفة) لتوفير مدخول مالي كريم له ولأسرته، وصراع حب الرئاسة والقيادة.. وغيرها من الصراعات.
كل هذه الصراعات اليومية تسبب له ضغوطاً نفسية وصحية وفكرية، فهو ما بين إثبات وجود، وبين الانسحاب، خصوصاً إذا ارتبط عمله الدعوي بمدخوله المالي، وهذا هو الربط الخطير، ولا أقصد ألا يحرص على إيجاد دخل مالي له كداعية، فهذا حق إنساني، ولكن ربط الدعوة بالمال هو الأخطر، لأنه ممكن أن يُخترق أو يُشترى دون أن يشعر، ويميل تجاه الجهة التي توفر له دخله، وأحياناً بزيادة.
فأذكر –على سبيل المثال- أن أحد الدعاة المشهورين قبل 15 سنة تقريباً رفع قضية على شاب متحمس؛ لأنه نسخ محاضراته على أشرطة كاسيت، ووزعها مجاناً على الشباب، لأن ذلك قلل من مبيعاته! مع أن الشاب لم يبعها، إنما وزعها مجاناً، فماذا سيفعل هذا الداعية الآن في عالم الإنترنت والميديا؟!
في حين كان الشيخ أحمد القطان حفظه الله لا يأخذ ديناراً على محاضراته وأشرطته التي كانت تباع منها مئات آلاف النسخ، وانتشرت في العالم الإسلامي في الثمانينيات انتشار الهشيم.
وهناك قراء معروفون بحسن أصواتهم، يشترطون آلاف الدنانير لإمامتهم في رمضان، والسفر على الدرجة الأولى هو ومرافقه! فأي بركة يرجوها من عمله الدعوي المشروط بالمال المبالَغ به؟!
ومع تقدم وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، بدأ بعض الدعاة باستثمار شهرتهم وملايين من يتبعهم (الفلورز) بتسويق مشاريع خيرية أو توعوية مقابل نسبة من الإيراد، أو مكافأة مقطوعة!
ولا يخفى على أي متابع لوسائل التواصل الاجتماعي مشاهدة انحراف بوصلة بعض الدعاة المشهورين والمغمورين؛ حيث يشنون حرباً ضروساً ضد بعض التيارات والرموز الدينية والسياسية لأجل مصالح ما، ويتناسون أنهم دعاة.
وهناك قصص ومواقف كثيرة لدعاة وقراء استثمروا فيها شهرتهم لتحقيق موارد مالية لهم، وإن كنا لا نعترض أن يجتهد الداعية في مجاله، وأن يحصل على رزقه، لكن لا يكون ذلك على حساب القرآن والإفتاء الخاص، ولا على حساب كرامته، وعلى حساب سمعة الدعاة.
ويجري الأمر على قادة المراكز الإسلامية في العالم، فهم رموز في مجتمعهم، فالأصل هو التورع عما في أيدي الناس، وبالمقابل على إدارة تلك المراكز توفير الدخل الكافي والمناسب للدعاة من أئمة ووعاظ، حتى لا يضطروا للاستجداء أو العمل فيما هو غير مناسب أو لائق.
ولا أفضل من أموال “الوقف” التي توفر دخلاً مناسباً للعلماء والدعاة المتفرغين تماماً للعمل الدعوي، الذي قالوا عنه في الماضي: “لولا هذا المال لتمندل بنا الحكام”، ولولا هذا المال الفائض، لما قامت حلقات العلم، والمحاضن التربوية، في كل العالم.
أقول ذلك حتى لا يشوه الدعاة دورهم الاجتماعي والقيمي والثقافي والتوعوي في المجتمع، ويفقدوا سمعتهم، ويشوهوا سمعة غيرهم، من حيث لم يقصدوا.
كما أدعو أهل المال من تجار وأوقاف ومؤسسات خيرية ومبرات وأثلاث لدعم تفرغ العلماء والدعاة، سواء لطلب العلم بعمومه، أو لنشره، فبهذا المال نكرم العلماء، ونكفهم عن مد اليد، أو طلب الرزق، والتفرغ التام للدعوة والتعليم، وأن يكون ذلك بإكرامهم والإغداق عليهم، لا بالتقتير عليهم.
الله الله بالعلم والعلماء، فهم ورثة الأنبياء، وهم منارات السبيل.
——
* المصدر: مجلة المجتمع.