د. محمد يسري
إن حكم تعلم هذا العلم ينبئ على حكم الدعوة نفسها، ومن أنعم النظر علم أن الدعوة إلى الله حياة الأديان، وأنه ما قام دين ولا انتشر إلا بالدعوة، ولا تداعت أركان ملة بعد قيامها وتلاشت إلا بترك الدعوة والتعليم والتذكير.
قال ابن القيم: “إذا كانت الدعوة أشرف مقامات العبد وأفضلها فهي لا تحصل إلا بالعلم الذى يدعو به وإليه، ولا بد في كمال الدعوة من البلوغ في العلم إلى حد يصل إليه السعي”.
وقد اتفق العلماء في الجملة على وجوب الدعوة إلى الله، وذلك لعموم قوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ} (النحل: 125)، وقوله سبحانه: {وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ} (القصص: 87)، ثم اختلفوا في نوعية الوجوب هل هو على التعيين أم على الكفاية؟ ولكلٍ أدلة قوية، ومنهم من رجح القول الأول ومنهم من رجح القول الثاني.
ومع كون أدلة الفريق الثاني أظهر وأقوى فإن ثمرة الخلاف العملية قليلة؛ وذلك لاتفاق الفريقين على أصل الوجوب، ولاتفاق القائلين بالوجوب الكفائي على أنه إذا لم تحصل الكفاية أثم جميع القادرين، كل بحسبه، وكذا فإن القائلين بفرض العين قيدوا الوجوب بالاستطاعة؛ فمن لم يكن عالما بحكم المنكر لم يعد مستطيعا اتفاقا، ومن كان عاجزا عن التغيير فقد سقط عنه الوجوب إذ مناط الوجوب هو القدرة؛ فيجب على القادر ما لا يجب على العاجز لقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (التغابن: 16) وقوله صلى الله عليه وسلم: “إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم” (أخرقه البخاري ومسلم).
وفي الجمع بين القولين قال شيخ الإسلام: “وكل واحد من الأمة يجب عليه أن يقوم من الدعوة بما يقدر عليه إذا لم يقم به غيره، فما قام به غيره سقط عنه، وما عجز لم يطالب به”.
كما يمكن الجمع بين القولين بتقسيم الدعوة إلى خاصة وعامة؛ فالخاصة في بيت الرجل وبين أهله وفي سلطانه، وهي واجب عيني لقوله صلى الله عليه وسلم: “كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته” (أخرقه البخاري ومسلم).
والدعوة العامة في سائر المسلمين دعوة إلى الخير وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر، وهي واجب كفائي لقوله تعالى: {وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (آل عمران: 104).
وأخيرا فإن تحقق الكفاية في الدعوة اليوم أمر متعذر وغير متيسر؛ فدعوة المسلمين مجال رحب فسيح متجدد وأوسع منه وأرحب دعوة غير المسلمين إلى الإسلام، كل ذلك في عالم يموج بالفتن وتستحكم فيه الجهالة ويتسع فيه الخرق على الراقع.
ونظرا إلى هذا فإن الدعوة إلى الله عز وجل اليوم أصبحت فرضا عاما وواجبا على جميع العلماء وعلى جميع الحكام الذين يدينون بالإسلام فرض عليهم أن يبلغوا دين الله حسب الطاقة والإمكان بالكتابة والخطابة وبكل وسيلة استطاعوا، وإلا يتقاعسوا عن ذلك أو يتكلموا على زيد أو عمرو فإن الحاجة بل الضرورة ماسة اليوم إلى التعاون والاشتراك والتكاتف في هذا الأمر العظيم. ولا يرد على هذا الحكم بظاهر قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} (المائدة: 105) بجواز ترك الدعوة حال الهداية؛ فإن ترك الدعوة مخصوص بفساد الحال في آخر الزمان؛ حيث لا ثمرة ولا أثر للدعوة، والإنكار لغلبة الشح المطاع والهوى المتبع وإعجاب كل ذي رأي برأيه، كما أن الاهتداء المذكور في الآية لا يتم إلا بالقيام بالدعوة والأمر والنهي؛ بل إن الآية لتدعو المؤمن ألا يهاب ويرهب من دعوة الكافر والمنافق والفاجر فإنهم لن يضروه إذا كان مهتديا.
—-
* المصدر: كتاب مبادئ علم أصول الدعوة.