القائمة الرئيسية
 الانفصام الدعوي (2 /5).. مع النفس
أكاديمية سبيلي Sabeeli Academy

حول الجذور الفكرية لأزمتنا الأخلاقية (12)

د. حازم علي ماهر

خلاصات نظرية لمواجهة الوهن!

تناولت المقالات السابقة دراسة نكبة الوهن التي تمر بها الأمة الإسلامية في مجموعها؛ حيث جرى خلالها التعريف بالوهن وبمظاهره وأسبابه مع بيان سبل الخروج منه، كما تم استعراض الأفكار الأساسية لأحد أهم المشروعات الفكرية النهضوية التي من شأن استيعابها المساعدة في استعادة العزة، وجاء الدور الآن على إلقاء الضوء على أهم الخلاصات النظرية التي أود التأكيد عليها قبل أن أورد –فيما بعد- بعض المقترحات العملية كنماذج لكيفية التحرك للتخلص من الوهن لإنهاء الحديث عن تلك النكبة التي استحقت كثيرًا من التوقف باعتبارها من أبرز النكبات الأخلاقية –والفكرية- التي نعاني منها، وذلك على الوجه الآتي:

أولاً: من الجيد الالتفات إلى التقسيم القرآني الثلاثي فيما يتعلق بأطراف معركة العزة والوهن إذا جاز التعبير (انظر: سورة إبراهيم: 21، وسورة سبأ: 31-42، وسورة غافر: 47- 51):

الطرف الأول: المستكبرون؛ ويشمل كل من استغلوا قوتهم لفرض هيمنتهم غير المشروعة على الآخرين أيًا كانت انتماءاتهم ومهما كانت جنسياتهم.

والطرف الثاني: كل المستضعفين الذين “ضعفوا ووهنوا واستكانوا” للمذلة والاستعباد، واتبعوا المستكبرين كاتباع أولياء الشيطان لوليِّهم، أيًا كانت تصنيفاتهم كذلك.

والطرف الثالث: الناجون من الدائيْن؛ الاستكبار وقبول الاستضعاف دون بذل أي جهد في مقاومته، وهؤلاء هم المؤمنون الأحرار الذين أدركوا جوهر مهمتهم السامية في الحياة فبذلوا غاية الوسع لتحرير أنفسهم من الاستسلام لتسلط المستكبرين والتبعية لهم في الدنيا لما يستتبعه ذلك من مشاركتهم العذاب في الآخرة!

ثانيًا: لم يعد أمام المسلمين من حل لاستعادة عزتهم إلا بوحدتهم على النحو الذي كانوا عليه قبل موقعة (صفين)، وهذه الوحدة لا تنتظر السياسيين ليقوموا بها، بل ينبغي أن يؤمن بها كل فرد ويفرضها على نفسه فورا، فيأخذ قرارًا داخليًا بالتخلي عن التفرقة بين المواطنين بحسب تصنيفاتهم الدينية والمذهبية والقطرية، والتي يتاجر بها السياسيون ويُغذّونها ليخفوا وراءها صراعاتهم لأجل نيل المطامع المادية وتوسيع مناطق النفوذ، وليترك كل منَّا حسم الخلاف العقيدي للآخرة حيث يفصل فيه الله عز وجل كما وعدنا سبحانه في محكم التنزيل: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [الحج: 17].

ثالثًا: لقد حان الوقت لإدراك أن العزة تُفرض ولا تُطلب، وأن السبيل إلى استردادها ليس هو الراحة والدعة والاستجداء الذليل، بل العمل -الجاد والمخلص والمتتابع- على امتلاك القوة اللازمة لتحقيق حياة العزة، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، والمؤمنون الأقوياء خير وأحب عند الله من المؤمنين الضعفاء!

رابعًا: يجب التخلص فورًا من أسطورة تزعم أن هذا الزمن هو زمن “وليسعك بيتك” بل هو –على العكس- زمن المصلحين؛ وهل يظهر المصلحون إلا إذا ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس؟ فليكن شعار المصلحين دومًا هو: “معذرة إلى ربكم ولعلكم تتقون”، وليغادر طالبو العزة بيوتهم –حسبما تسمح به أوقاتهم- ليخوضوا معاركهم الإصلاحية بشرف وعزم وتصميم لا يلين، محاربين -قبل كل شيء- لليأس والإحباط اللذين لا مبرر لهما ولا مسوغ شرعي، ومبتغين تحقيق مقاصد الشريعة بحماية مصالح الناس في الدارين، لا يعولون في تحركاتهم إلا على المولى عز وجل، ثم على وعيهم وتخطيطهم الحكيم الذي يعتمد التدرج لاستدراج الناس للخير في مواجهة من يستدرجونهم للفقر والجهل والشر، فالتدافع سُنَّة كونية، والعاقبة للمتقين المصلحين ولو بعد حين!

خامسًا: لن يُقضى على وهن الأمة، أو حتى على وهن الفرد، بخطوة واحدة فاصلة، بل عبر السير خطوات صغيرة قد لا تكون لها تأثيرات عاجلة كبيرة، فإن الجبال عبارة عن مجموعة متراكمة من الحصى، وإن الإنجازات الكبرى لابد وأن تكون قد سبقتها نجاحات –وكبوات- صغرى، كما أن تتابع الحركة وجماعيتها وتزامنها بانتظام من شأنه أن يسرع بقطار الإصلاح، ولهذا أوصى النبي صلى الله عليه وسلم –في الحديث الذي رواه الإمام الترمذي- بعدم احتقار شيء من المعروف: “لا يحقرن أحدكم شيئًا من المعروف، وإن لم يجد فليلق أخاه بوجه طلق، وإن اشتريت لحما أو طبخت قدرا فأكثر مرقته واغرف لجارك منه” (صححه الألباني).

سادسًا: كل تأخر في الإصلاح، يقابله تجذر أكبر للفساد، ومن ثم فإن من يطلبون العزة عليهم أن يستثمروا كل ما تيسر من أوقاتهم في سبيل تحقيقهم هدفهم الإصلاحي المنشود، ويحمسهم لذلك إدراكهم لشراسة معركتهم بعد أن توحش المستكبرون إلى درجة أنهم لم يعودوا يعتمدون على القهر وحده، بل على الإغواء والتغلغل في حيوات الناس، العامة والخاصة، مستعينين في ذلك بأدوات تتملك الناس بإرادتهم التي يتوهمون أنها حرة، بينما هي مكبلة تكبيلا اختياريًا قد يصل إلى حد الإدمان الذي يعجز صاحبه عن أن يتخلص منه!

سابعًا: هناك جزء كبير من معركة العزة وسيادة القيم لا يتعلق بالمسلمين وحدهم، بل بكل إنسان حر في هذا العالم، ومن ثم فإن التلاحم مع هؤلاء الذين يستشعرون الأخطار الرهيبة التي تجرنا إليها الرأسمالية المتوحشة بمنظوماتها وهياكلها وأدواتها، لاسيما عدوانها على فطرة الإنسان وعلى قيمه الأساسية، وعلى بيئة الأرض ومناخها، فضلا عن تهديدها المتصاعد بإبادة البشرية عبر حروب نووية أو بيولوجية قد يشعلها أحمق أو متهور، كل ذلك يستدعي تحويل المعركة ضد المستكبرين لتكون هي معركة الإنسانية بأسرها، باعتبارهم لا يستهدفون المتطرفين من أهل حضارة معينة فقط (وهي الحضارة الإسلامية) كما يزعمون!

ثامنًا: لقد فشلت كل المشروعات السياسية التي تعول في الإصلاح على استجابة الدولة لا على إرادة المجتمع، كما فشلت تلك المبادرات التي تجاهلت صانع الحضارة، وهو الإنسان، وقد حان الوقت للالتفات إلى المجتمع، والتعويل عليه لينهض من سباته الذي طال، بتنمية الإنسان والتركيز على تحريره وفتح الطريق أمامه للعمل الإبداعي والاجتماعي الفعال، والأخذ بيده إلى تحويل أفكاره إلى أنشطة وأفعال، وإلا فإن التخلص من الوهن سيكون من المحال!

هذه بعض الخلاصات النظرية التي انتهيت إليها بشأن نكبة الوهن، والتي لا يكتمل نفعها إلا بضرب أمثلة لخطوات عملية يمكن أن تسهم في استبدال العزة بالوهن، وهذا هو موضوع المقال المقبل بإذن الله.

(ينشر بالتعاون مع موقع الباحث عن الحقيقة).

مواضيع ذات صلة