القائمة الرئيسية
 الانفصام الدعوي (2 /5).. مع النفس
أكاديمية سبيلي Sabeeli Academy

حول الجذور الفكرية لأزمتنا الأخلاقية (8)

د. حازم علي ماهر

مشروع فكري لاستعادة العزة

تظل الحاجة متجددة إلى الاستعانة بالفكر الواعي والعميق الذي يرشدنا إلى تنزيل النصوص الدينية والمبادئ الأخلاقية الثابتة على الواقع المتحرك تنزيلا رشيدًا، يستوعب الواقع ولا يوجد بينه وبين تلك النصوص والمبادئ تنافرًا وتناقضًا يفصل بينهما، بل يجري مصادقة فعالة تنهض بالإنسان وتأخذ بيديه إلى رحاب الحياة الحسنة في الدنيا والآخرة.

مالك بن نبي

ولقد ذكرت في المقال السابق أن المفكر مالك بن نبي يعد من أبرز المفكرين الذين قدموا مشروعًا فكريًا متكاملا يستهدف مواجهة نكبة وهن الأمة، أفرادًا وجماعات، إذ يصح وصفه -بلا تردد- بأنه المشروع الفكري الذي من شأن فهمه والعمل بمقتضاه أن يسهم في حل أزمتنا الأخلاقية من خلال النظر إليها من منظور حضاري شامل، أي من جهة أننا نعاني أزمة كبرى تتمثل في تخلفنا عن حالنا الأسبق، حين كنا خير أمة أخرجت للناس، تؤمن بالله وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، تعلم العالم العقيدة التوحيدية والأخلاق الحميدة التي تسمو بروحه، كما تعلمه العلوم التطبيقية التي تلبي احتياجاته المادي!

والواقع أن مالكًا بن نبي ومشروعه قد صدرت عنه عشرات الكتب والأبحاث والمقالات، ومن ضمنها رسائل للدكتوراة والماجستير، ومن ثم فليس من الحكمة محاولة إيجاز ذلك المشروع الضخم في سطور قليلة، ولذا سأقتطف منه فقط بعض أفكاره ومفاهيمه ومقولاته الرئيسية التي تساعد على هجرة الوهن وأفكاره، واستعادة العزة وأخلاقها.

ونظرًا لأن الكثيرين قد لا يعرفون من هو مالك بن نبي سأبدأ بإعطاء نبذة عنه أولاً:

هو مالك بن الحاج عمر بن الخضر بن مصطفى بن نبي، ولد في مدينة تبسة التابعة لولاية قسنطينة بالجزائر سنة 1905م، لأبوين متدينين فقيرين ولكنهما حرصا على تعليمه إلى حد أن أعطت أمه سريرها الخاص لمعلمه القرآن لعجزها عن دفع المال له!

تلقى مالك بن نبي تعليمه من الابتدائي إلى الثانوي في المدارس الجزائرية على يد مدرسين معظمهم من الفرنسيين المحتلين لبلاده، ثم سافر إلى فرنسا وحصل هناك على بكالوريوس الهندسة (تخصص الكهرباء)، كما درس الكيمياء ليلا في الوقت نفسه. قام مالك بنشاط إصلاحي كبير فيما بين الطلبة الفرنسيين في الجزائر، مما أدى إلى عرقلة السلطة الفرنسية لتعيينه في أي منصب، بل وفصلت والده من عمله للسبب نفسه!

لم يستسلم مالك بن نبي فاتجه إلى القيام بأعمال -بعضها كان متواضعًا- ليعيش منها ويساعد أهله، غير أنه اتجه للكتابة كذلك وألف أول كتبه المطبوعة باللغة الفرنسية، وهو كتاب “الظاهرة القرآنية” الذي ترجمه إلى العربية فيما بعد الدكتور عبد الصبور شاهين، وقدم لترجمته العربية العلامة محمود محمد شاكر حيث أثنى على الكتاب ثناءً كبيرًا، ومن ذلك قوله: “هذا كتاب (الظاهرة القرآنية) وكفى، فليس عدلا أن أقدم كتاباً هو يقدم نفسه إلى قارئه، وبحسب أخي الأستاذ مالك بن نبي وبحسب كتابه أن يشار إليه، وإنه لعسير أن أقدم كتابًا هو نهج مستقل، أحسبه لم يسبقه كتاب مثله من قبل. وهو منهج متكامل يفسره تطبيق أصوله، كما يفسره حرص قارئه على تأمل مناحيه” (ص: 17)!

وقد أدركت السلطات الفرنسية مدى خطورة فكره ونشاطه الثقافي في أوساط الجالية الجزائرية في فرنسا فطردته، مما أدى إلى لجوئه إلى مصر سنة 1956م، ولبث هناك سبع سنوات، تعلم خلالها اللغة العربية (وهو في الخمسين من عمره!) وألف كتابه الأول بها، وهو “الصراع الفكري في البلاد المستعمرة” أحد أبرز كتبه.

عاد مالك بن نبي إلى الجزائر سنة 1963م بعد جلاء قوات المحتل الفرنسي، وتولى هناك عدة مناصب، وصلت إلى تعيينه مديرًا للتعليم العالي (وهو منصب يقابل منصب الوزير الآن)، غير أنه اكتشف أن الاستعمار وإن كان قد أجلى قواته العسكرية إلا أنه ترك جنودًا له مشوهين فكرًا وخلقًا فقدم استقالته، وتفرغ لعمله الفكري ولصالونه الثقافي الذي كان قبلة للباحثين والطلبة ولعموم المثقفين، إلى أن أدى فريضة الحج عام 1972م، ومرض بعدها مرض موته ليلقى ربه في أكتوبر 1973م، بعد أن أخبر زوجته بأنه سيعود إليهم بعد ثلاثين عامًا؛ أي سيدرك الناس قيمة أفكاره بعد مرور هذه السنوات، ولقد صدق في مقولته، غير أن توقعه للمدة لم يكن صحيحًا، فقد بدأ الناس يقدرون قيمته بعد ما يقرب من أربعين عاما لا ثلاثين!

مشروعه الفكري

أما عن المشروع الفكري لمالك بن نبي فيمكن –بداية- تلخيص الفكرة الأساسية المنتجة لعزة الأمة الإسلامية فيه، في أن الأمة عليها أن تعتمد على ذاتها –لا على الآخرين- في التخلص من تخلفها الذي يسر لأعدائها السيطرة عليها، وأن هذا أمر متاح تمامًا، لأنه يتوقف على عناصر أساسية متوفرة دائمًا وفي متناولها ومتناول كل فرد فيها؛ تتكون من: إنسان عاقل صاحب إرادة واعية ورشيدة، يستثمر كافة الإمكانات المتوفرة له مهما كان حجمها (عبر عنها مالك بمصطلح التراب)، مستغلا كل لحظة من حياته في تحقيق هدفه، وهو أمر لن يحدث إلا من خلال تفعيل عقيدته الدينية التوحيدية من جديد باسترداد تأثيرها الروحي والاجتماعي على النحو التي كانت عليه في بدايات الإسلام ودفع بالمسلمين حينها إلى مقاومة الظلم والظلام ومن ثم أضاءوا النور في جنبات العالم لقرون عديدة، على عكس من يشعلون النار في عالمنا المعاصر!

هذه هي الفكرة التي أرى أنها قد دارت حولها الغالبية العظمى من كتابات مالك، والتي أصدرها جميعا في سلسة عنوانها: “مشكلات الحضارة”، وهذه الفكرة تحتاج بالطبع إلى تفصيل اخترت أن يكون عبر الاستعانة بالمفاهيم والمقولات الأساسية التي طرحها مالك وأكد عليها مرارًا في مؤلفاته المختلفة، على أن أسعي إلى تنزيلها على واقعنا المعيش والنظر في تطويرها بما يتناسب مع ما جرى عليه من تغيرات بعضها كان كبيرًا جدًا.

فإلى المقال المقبل.

 

(ينشر بالتعاون مع موقع الباحث عن الحقيقة).

مواضيع ذات صلة