عز الدين عناية
لن نذهب بعيدا في تتبع نشأة مصطلح الإسلاموفوبيا، الذي شهد رواجا منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي[1]، بل ما يعنينا
بالأساس وهو السياق التاريخي الذي ولّد هذا المصطلح للتعبير عن ظاهرة بات الحديث عنها متداولا. ثمة مناخ سلبي يسود في الغرب عن الإسلام والمسلمين، التأمت عناصره منذ نجاح الثورة الإسلامية في إيران، وما أعقبها من تطورات متسارعة مع قضية سلمان رشدي (إنجلترا 1988)، والفولار الإسلامي (فرنسا 1989)، وارتدادات سقوط جدار برلين (1989)، إلى أن بلغت المسألة ذروتها مع آثار أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001. هذا المناخ ولّد ضغطا على المسلمين في أوروبا امتدّ على عقود ولا يزال، مخلّفا تضييقا وردود فعل متباينة، أُتبعت بإصدار قوانين استهدفت المسلمين[2]. وَرَث هذا المناخُ الحانق موجةَ عداءٍ سابقة للعرب، كانت أحداث باريس في عام 1961، عشية استقلال الجزائر، أبرز فصولها، كما ربط بين الظاهرتين دومينيك فيدال في مقاله الصادر في صحيفة “لوموند دبلوماتيك” الفرنسية بعنوان من “العربوفوبيا إلى الإسلاموفوبيا”[3]. وقد دفعت تلك الأجواء الراحل إدوارد سعيد إلى التفطن إلى تحويل الحمولة الدلالية للاسامية من اليهود إلى العرب والمسلمين[4].
النخبة بين صنع الإسلاموفوبيا والتصدّي للظاهرة
مع أن الارتياع من الإسلام والخشية من المسلمين باتا واقعاً سائداً في المجتمعات الأوروبية، إلا أن متابعة هذه الظاهرة ما لبث محدودا. الأمر الذي انعكس على سُبُل التصدي لها والتنبه لمخاطرها. فليست هناك أبحاث وافرة عن الظاهرة، بل غالبا ما يرد موضوع الإسلاموفوبيا مدرجا ضمن الكتابات التي تعالج مسائل الاندماج والهجرة. لعل الأمر عائدٌ بالأساس إلى كون الدراسات السوسيولوجية، بشأن الإسلام والمسلمين، هي دراسات معاصرة، شهدت انطلاقتها مع حقبة السبعينيات، بعد أن غادر الإسلامُ الماضيَ الإتنوغرافيَ الاستشراقيَ وبات ضمن الحاضر السوسيولوجي[5]. وحتى آباء علم الاجتماع في الغرب، أمثال أوغست كونت وإيميل دوركهايم، فقد غاب الإسلام تقريبا من مدوناتهم، باستثناء إيراد مختصر لدى ماكس فيبر في كتابه غير التام “علم اجتماع الأديان”، الذي تطلّع فيه إلى إتمام عمل مقارن. لكن كافة هذه العوامل لا تبرر قلة الاهتمام بظاهرة الإسلاموفوبيا، ففتور الانشغال الإيطالي والفرنسي -على سبيل المثال- يأتي جراء غلبة التركيز على ما يثيره الإسلام من قلاقل، لا على ما هو عرضة له من مشاكل. هذا علاوة على تواجد مناخ سياسي في أوروبا، الإسلام فيه مدان، وليس من الهين تحويله إلى مدين، يمتد من التغاضي عن ظاهرة الإسلاموفوبيا إلى التبخيس من شأنها[6]. تقول أنّاماريا ريفيرا “لا تشكّل مسائل كره الأجانب ولا العنصرية مواضيع حاضرة في الخطاب العمومي في إيطاليا. وهي عادة مواضيع خاضعة للرقابة الضمنية من قِبل وسائل الإعلام والمؤسسات؛ بل حتى في فضاء الدراسات المختصة فهي تُعَدّ غير ملائمة وغير لائقة”[7].
وفي إيطاليا على سبيل الذكر، لا تتعدى الأعمال الصادرة عن الظاهرة أربعة أعمال[8]، حيث تبقى المسألة متداوَلة في وسط ضيق بين متابعي قضايا الهجرة والإسلام في الغرب. ومن بين الذين أولوا المسألة اهتماما، نجد أناماريا ريفيرا (2002)، وستيفانو أليافي (2003)، ومونيكا ماساري (2006)؛ وتبقى النخبة الأوروبية المتابعة لقضايا الإسلام مشغولة، في مجملها، بكون الإسلام يمثّل مشكلة وتهديداً وخطراً (الاندماج، الإرهاب، المخاطر الأمنية، التحديات المستقبلية) وليس ضحية. وحتى الراهن لم تخلق الشرائح المتضررة من الإسلاموفوبيا أدواتها ووكلاءها لمعالجة الظاهرة، مع استثناءات قليلة في الواقع الفرنسي.
حريّ أن نشير أيضا إلى أن مصطلح الإسلاموفوبيا المثقل بالدلالة الدينية، ينبغي ألا يخفي الانحرافات في المقاربة، من خلال اختزال الإسلاموفوبيا في بُعْد ديني وإغفال عمقها الاجتماعي. فليست قضايا المهاجر المسلم قضايا لحم حلال وفولار وصومعة، بل المسألة تتلخص في حيف اجتماعي، قوامه العزل المقصود في الشغل، والاستبعاد على وجه العمد من مواقع النفوذ لشرائح واسعة. ولعل أخطر مستويات الإسلاموفوبيا حين تصدر من أعلى، وتكون مدعومة بقرار مؤسساتي[9]. تتحدث جوسلين شزاري عن الصلة بين الأصول العرقية والدين والفقر، وهي معادلة في منتهى الخطورة في حالة المهاجرين المسلمين[10]. وقد كنا أشرنا في دراسة منشورة إلى “طفو نعرات الهوية حين تغيّب الحقوق”[11]، تأكيدا على أخذ المشكل الاجتماعي تلونات أنثروبولوجية في غياب الحلول الصائبة.
يورد مؤلّفا “الإسلاموفوبيا. النخبة الفرنسية وصناعة مشكلة الإسلام” أنه أثناء الإضرابات التي شنها عمال شركتي سيتروان وتالبو الفرنسيتين سنة 1982، جرى اتهام المحتجين من قبل تحالف الأعراف والساسة والإعلام بالأصولية، لأن شقا واسعا من المحتجين كانوا مغاربة، أدرجوا ضمن قائمة المطالب إقامة بيت صلاة. خلّفت الاحتجاجات حينها ترحيل العديد خارج فرنسا، واختزال القضية في مبررات دينية، بعد وصْف الإضرابات بأنها “شيعية” خصوصا وأن الفترة كانت قريبة عهد بالثورة الإيرانية[12].
الهوامش:
[1] . مع أن مصطلح الإسلاموفوبيا حديث العهد فإن الظواهر التي يحاول الإحاطة بها تعود إلى تاريخ أبعد. وقد بدأ شيوع المصطلح منذ نشر نتائج استطلاع “لجنة مسلمي بريطانيا والإسلاموفوبيا” (Commission in britsh Muslims and Islamophobia) سنة 1997.
[2]. صدرت في بريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا، بين العامين 2001 و 2005، جملة من القوانين ضد الإرهاب، واتُّخِذت حزمة من التدابير استهدفت بالأساس المسلمين، زادت من تضييق الخناق عليهم.
[3]. Dominique Vidal, «De l’arabophobie à l’islamophobie», Le Monde diplomatique, 11/2003.
[4]. Edward Said, Orientalismo, Feltrinelli, Milano 2004, pp. 282-283.
[5]. Leila Babès, L’altro islam. Un’indagine sui giovani musulmani, Edizioni Lavoro, Roma 2000, p. 26.
[6]. راجع دور النخبة الفرنسية في اختلاق “مشكلة الإسلام” بدل السعي لتناول قضايا الإسلام، في الكتاب المشترك لعبداللالي حجات ومروان محمد “الإسلاموفوبيا. النخبة الفرنسية وصناعة مشكلة الإسلام”:
Abdellali Hajjat, Marwan Mohammed, Islamophobie. Comment les élites françaises fabriquent le “problème musulman”, La Découverte, Paris 2013.
[7]. Annamaria Rivera, Estranei e nemici. Discriminazione e violenza razzista in Italia, DeriveApprodi, Roma 2003, pp. 10-11.
[8]. Alietti A.; Padovan D.; Vercelli C., Antisemitismo, islamofobia e razzismo, Editore Franco Angeli 2014; Enrico Galoppini, Islamofobia: attori, tattiche, finalità 2009.
[9]. Marchi Alessandra, «La Francia e l’islamofobia», Jura Gentium, Firenze 2010.
[10]. Jocelyne Cesari, L’Islam francese: una minoranza religiosa in costruzione, Edizioni Dedalo, Bari 2002, pp. 49-50.
[11] . الوجود الإسلامي في الغرب الوقائع والمصائر، مجلة الكوفة، العراق، خريف 2012، ص: 58-60.
[12]. Abdellali Hajjat, Marwan Mohammed, Islamophobie, p. 106.
——-
* المصدر: الملتقى الفكري للإبداع.