أ.د. السيد محمد نوح
أولا: مفهوم ضيق الأفق أو قصر النظر:
لغة:
الأفق لغة واحد الآفاق التي هي الجهات أو النواحي، قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ} [فصلت: 53]، والنظر هو تأمل الشيء بالعين، قال تعالى: {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} [الغاشية: 17]، وهو كذلك تقليب البصيرة لإدراك الشيء ورؤيته، قال تعالى {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ…} [الأعراف: 185]، وتبعا لما ذكرنا، فإن ضيق الأفق في اللغة، يعنى انحسار أو انكماش جهة أو ناحية النظر والتأمل وكذلك قصر النظر يعنى ضعف أو اختلال البصر والبصيرة أو هما معا.
اصطلاحا:
أما مفهوم ضيق الأفق أو قصر النظر في الاصطلاح الشرعي والدعوي فهو ضعف أو خلل في البصيرة يؤدي إلى حصر التفكير أو الرؤية في حدود ضيقة لا تتجاوز المكان والزمان، أو بعبارة أخرى: هو ضعف أو خلل في البصيرة يؤدي إلى رؤية القريب وما تحت القدمين فقط، دون النظر إلى البعيد، ودون تقدير الآثار والعواقب، قال تعالى {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46].
ثانيا: أسباب ضيق الأفق أو قصر النظر:
ولضيق الأفق أو قصر النظر أسباب تؤدي إليه، وبواعث توقع فيه، نذكر منها:
1- النشأة الأولى:
فقد ينشأ الإنسان في بيئة لا تهتم كثيرا بتنمية الذكاء الفطري أو المواهب لدى أفرادها فتكون العاقبة انحسار دائرة التفكير أو النظر أو التأمل؛ إلا من رحم الله عز وجل.
2- صحبة نفر من ذوي الأفق الضيق والنظر القصير:
وقد يحيط بالإنسان صحبة ذات أفق ضيق، ونظر قصير، فتسري آثار ذلك إلى هذا الإنسان.
3- الانزواء أو العزلة:
وقد يؤثر الإنسان العزلة والانزواء، إما لعدم القدرة على التوفيق بين الفردية والجماعية، وإما إيثارا للعافية والسلامة، ومثل هذا وإن جنى كثيرا من ثمار العزلة أو التفرد، فإنه يخسر أول ما يخسر الخبرة أو التجربة.
4- عدم الفهم لدور أو لرسالة الإنسان في الأرض:
وقد لا يفهم الإنسان دوره أو رسالته في الأرض، من أنه خليفة فيها. وإن تحقيق هذا الدور أو الرسالة يقتضي التبصر والتدبر.
5- عدم الفهم لحقيقة ومضمون الإسلام:
وقد لا يفهم المسلم حقيقة ومضمون الإسلام، من أنه دين شامل للحياة جميعا، وإلى قيام الساعة.
6- عدم الإلمام بواقع الأعداء وأسلوبهم في العمل:
وقد يكون المسلم غير ملم بواقع الأعداء وأسلوبهم في العمل، من أنهم كثرة، وأن لديهم العتاد والعدد، وأن أسلوبهم في العمل يقوم على الدهاء والمكر والخديعة.
7- الإعجاب بالنفس، بل الغرور والتكبر:
وقد يكون الإنسان معجبا بنفسه مغرورا متكبرا، فيحمله ذلك على الترفع والاستعلاء أن يكتسب من غيره الخبرة أو مهارة أو تجربة، فيبقى طول حياته محدود الأفق قصير النظر.
8- الغفلة عن العواقب أو الآثار المترتبة على ضيق الأفق أو قصر النظر:
فقد يكون المسلم غافلا عن العواقب أو الآثار المترتبة على ضيق الأفق أو قصر النظر، فيقنع بما هو عليه دون أن يجهد نفسه، أو أن يعمل فكره في تلاشي هذه العواقب.
9- الجهل بأخبار وحوادث الماضين:
وقد يكون المسلم جاهلا بأخبار وحوادث الماضين وكيف كانوا يتصرفون إزاء المواقف المباغتة أو المفاجئة، ومثل هذا يعيش محروما من الخبرة والدراية والتجربة.
10- ضعف الصلة بالله عز وجل:
وقد يكون المسلم ضعيف الصلة بالله عز وجل بأن يكون غير محترز من المعاصي والسيئات، لاسيما الصغائر منها، أو أن يكون مفرطا في عمل اليوم والليلة، أو مهملا لجانب فعل الخيرات، فيعاقب على ذلك كله بالحرمان من الحكمة التي هي أساس سعة الأفق وبعد النظر.
ثالثا: مظاهر أو سمات ضيق الأفق أو قصر النظر:
1- التبرم الشديد بالمنهج الدعوي أو الحركي الذي ارتضته الحركة الإسلامية المعاصرة، من أجل التمكين لدين الله في الأرض، ووصف هذا المنهج بالتخلف، وعدم القدرة على مواكبة ظروف ومستجدات العصر، بل ووصف القائمين عليه بالركون إلى الدنيا إيثارا للعافية والسلامة.
2- حصر الجهد في جوانب وإن كانت مفيدة إلا أنها ثانوية، تستهلك طاقة كبيرة، ووقتا طويلا.
3- الصلابة أو الشدة عند التقصير في سنة من السنن، أو هيئة من الهيئات، والسكوت وعدم تغير القلب أو تمعر الوجه عند تضييع فريضة من الفرائض، أو واجب من الواجبات.
4- علاج المشكلات التي تعاني منها الأمة الإسلامية بطريق تعاطي المسكنات دون البحث عن أصل الداء، وسبب العلة، ثم اجتثاث هذا الأصل، أو هذا السبب من جذوره.
5- استعجال النتائج أو قطف الثمار قبل أوانها، وقد قيل: من استعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه.
رابعا: آثار ضيق الأفق على العاملين:
1- تبديد الجهود وإهدار الطاقات:
فالأثر الأول: تبديد الجهود وإهدار الطاقات في أمور نافعة مفيدة لكنها ثانوية بل هامشية، وإذا بددت الجهود، وأهدرت الطاقات في مثل هذه الأمور، فإن المسلم العامل سيعجز بعد ذلك ويفقد القدرة على مواجهة المهام الجسام، والتبعات الضخمة.
2- اليأس والقنوط:
والأثر الثاني هو اليأس والقنوط، ذلك أن ضيّق الأفق أو قصير النظر سيواجه في طريقه كثيرا من العقبات والصعاب، ولن يستطيع -لضيق أفقه أو لقصر نظره- استيعاب هذه العقبات وتلك الصعاب، ومحاولة التغلب عليها وتكون النتيجة: اليأس والقنوط.
3- قلة أو تلاشي كسب الأنصار والمؤيدين:
والأثر الثالث هو قلة أو تلاشي كسب الأنصار والمؤيدين، ذلك أن ضيّق الأفق أو قصير النظر نادرا ما يصادفه التوفيق والنجاح، ومن يفقد التوفيق والنجاح لا يبقى لديه ما يغري به الناس، حتى يكسب منهم نصيرا، أو على الأقل مؤيدا.
4- الحرمان من التوفيق الإلهي:
والأثر الأخير إنما هو الحرمان من التوفيق الإلهي، ذلك أن ضيق الأفق أو قصير النظر، يريد من كل الناس السير وفق تصوره الضيق، ورؤيته المحدودة، ولن يستجيب له الناس، وحينئذٍ يسلقهم بألسنة حداد، ويجعل من لحومهم غذاءً شهيا، وأنى لمن يلغ في أعراض الناس، ويعيش على لحومهم أن يمنحه ربه توفيقا أو تأييدا؟!.
خامسا: علاج ضيق الأفق أو قصر النظر:
(1) التعود على تحمل المسئولية في الصغر، ومنذ نعومة الأظفار، فإن ذلك يكسب الإنسان كثيرا من الخبرات والتجارب، وينمي لديه مواهبه أو ذكاءه الفطري، فإذا شب بعد ذلك، كان واسع التصور بعيد الرؤية.
(2) اقتلاع النفس من بين ذوي الأفق الضيق والنظرة المحدودة، والارتماء في أحضان أصحاب الخبرات والتجارب.
(3) الفهم الدقيق لرسالة الإنسان، ودوره في الأرض وسبيل القيام بهذا الدور، وهذه الرسالة.
(4) الفهم الدقيق لحقيقة ومضمون الإسلام، وسبيل العمل أو التمكين له في الأرض.
(5) الإلمام التام بواقع الأعداء، وسبيلهم أو مناهجهم في العمل، فإن هذا الإلمام كثيرا ما يحمل صاحبه على قدح زناد الفكر، والاحتيال من أجل إبطال هذه السبيل، أو هذا النهج، وذلك هو ما نعنيه بسعة الأفق وبعد النظر.
(6) معايشة رسول الله صلى الله عليه وسلم في سيرته، فإنها حافلة بالكثير من المواقف التي تساعد على سعة الأفق وبعد النظر.
(7) حسن الصلة بالله عز وجل، من ترك للمعاصي والسيئات صغيرها وكبيرها، ومن المواظبة على عمل اليوم والليلة، ومن التفاني في فعل الخيرات، فإن ذلك يورث الحكمة التي عنوانها: سعة الأفق وبعد النظر.
(8) دوام الاطلاع على خبرات وتجارب الماضين، فإنها مشحونة بالكثير والكثير الذي يكسب الخبرات والتجارب، وينمى المواهب والقدرات.
* المصدر: كتاب “آفات على الطريق” للدكتور السيد نوح (بتصرف).