محمد المنشاوي
منذ فترة غير قصيرة، وأثناء تجولي في إحدى أكبر مكتبات بيع الكتب والمجلات والدوريات «بارنز أند نوبل» في إحدى ضواحي العاصمة الأمريكية، وقعت عيناي على غلاف مجلة عسكرية تاريخية متخصصة (فصلية التاريخ العسكري) تحمل غلافا عنوانه الرئيسي «محمد» مما أثار لديّ فضولا، وتناولتُ المجلة وقرأتُ بقية العنوان، ولا أخفي أنه أثار فيّ من المشاعر ما يتراوح بين الاندهاش وغضب ممزوج بالفضول.
قررتُ شراء الدورية المتخصصة التي يقرؤها كبار رجال القوات المسلحة الأمريكية ممن لهم اهتمامات بالشئون التاريخية وانعكاساتها على الشئون العسكرية المعاصرة. وتوزع الدورية 22,200 نسخة، وهي من أقدم الدوريات المتخصصة في الشئون العسكرية ويكتب بها نخبة المؤرخين العسكريين الأمريكيين.
كاتب الدراسة المؤرخ العسكري «ريتشارد جابريل» الذي عمل سابقا في جهات حكومية مختلفة وخدم في وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، وله 41 كتابا. ويرى الكاتب أنه بدون عبقرية ورؤية الرسول محمد العسكرية الفذة ما كان ليبقى الإسلام ويصمد وينتشر بعد وفاة الرسول.
وتذكر الدراسة أيضا أنه وبرغم توافر الكثير من الدراسات العلمية عن حياة وإنجازات الرسول، إلا أنه لا توجد دراسة تنظر للرسول كأول جنرال عسكري في الإسلام وكمتمرد ناجح First Insurgent على حد التعبير الحرفي للدراسة.
كما ترى الدراسة أنه لولا نجاح الرسول محمد كقائد عسكري، ما كان للمسلمين أن يغزو الإمبراطورتين، البيزنطية والفارسية بعد وفاته. وتقول الدراسة إن النظر للرسول محمد كقائد عسكري هو شيء جديد للكثيرين، حيث إنه كان عسكريا من الطراز الأول قام في عقد واحد من الزمن بقيادة (8) معارك عسكرية، وشن (18) غارة، والتخطيط لـ38 عملية عسكرية محدودة.
تذكر الدراسة أن الرسول أصيب مرتين أثناء مشاركته في المعارك. ولم يكن الرسول محمد قائدا عسكريا محنكا وحسب، بل ترى الدراسة أنه كان «منظرا عسكريا» و«مفكرا استراتيجيا» و«مقاتلا ثوريا». وتصف الدراسة الرسول محمد بأول من أوجد «عمليات التمرد Insurgency Warfare وحروب العصابات Guerrilla Warfare، وكذلك بأول من مارس وطبق هذه الاستراتيجيات».
استخدم الرسول كل ما كان متاحا من وسائل من أجل تحقيق أهدافه السياسية، واستخدم في هذا الإطار وسائل عسكرية وغير عسكرية (مثل بناء تحالفات، والاغتيالات السياسية، العفو، والإغراء الديني، إضافة إلى ما وصفته بالمجازر butchery، وضحى الرسول أحيانا بأهداف قصيرة المدى من أجل تحقيق أهداف طويلة المدى).
وتشيد الدراسة بـ«أجهزة المخابرات» التي أنشأها وأدارها الرسول، والتي تفوقت على نظيراتها عند الفرس والروم أقوى إمبراطوريتين آنذاك. وترى الدراسة أن استراتيجيات الرسول يمكن وصفها بأنها جمع بين نظريات كارل فون كلاوزفيتس ونيقولا ميكيافيللي، حيث استخدم الرسول دائما القوة من أجل تحقيق مكاسب سياسية. وتعزي الدراسة نجاح الرسول في إحداث تغيير ثوري في العقيدة العسكرية لما كان معروفا وسائدا في جزيرة العرب، لإيمانه بأنه مرسل من عند الله، وتشير إلى أنه وبفضل ذلك نجح في إيجاد أول جيش نظامي عربي قائم على الإيمان بنظام متكامل للعقيدة الإيديولوجية «الدين الإسلامي». مفاهيم مثل «الحرب المقدسة» و«الجهاد» و«الشهادة» من أجل الدين قدمها أولا واستخدمها الرسول محمد قبل أي شخص آخر، ومن المسلمين اقتبس العالم المسيحي «السلبي» مفهوم الحرب المقدسة، وباسمها شن الحروب الصليبية فيما بعد ضد المسلمين أنفسهم.
وعلى العكس من القادة العسكريين التقليديين، لم يسع الرسول محمد لهزيمة جيوش أعدائه، بل سعى بنجاح لتشكيل جيش عربي موحد تحت إمرته هو شخصيا من هذه الجيوش جميعها. ورغم أن الدراسة تدعي أن الرسول محمد بدأ حركة تمرده العسكرية بعدد قليل من المقاتلين تستخدم فقط «الكر والفر hit and run» إلا أن هذه الأعداد القليلة وصلت لما يقرب من 10 آلاف من المقاتلين بعد عقد من الزمان عندما تم غزو مكة كما تذكر الدراسة. كما أدرك الرسول أن حركة التمرد تتطلب لنجاحها قوات مسلحة قوية، وشعبا يدعم جيشه. وكان الرسول هو أول قائد في التاريخ يتبنى عقيدة سياسة خلاصتها «حرب الشعب.. جيش الشعب People’s War، People’s Army» وذلك قبل تبني نفس العقيدة من قبل الجنرال الفيتنامي «فونجوان جياب» خلال حرب فيتنام. وترى الدراسة أن الرسول نجح في أن يقنع أتباعه أن الله طالب كل المسلمين بتسخير كل مواردهم من أجل العقيدة ومن أجل ما يطلبه الرسول نفسه.
ونجح الرسول في دمج التشكيلات العربية المقاتلة التي انقسمت إلى فئتين، فئة جنود المشاة المكونة من رجال فقراء من سكان القرى الصغيرة والواحات والتجمعات خارج المدن الرئيسية. وفئة الفرسان المكونة من رجال القبائل ممن لهم مهارات قتالية عالية يتوارثونها عبر الآباء، وكان بين الفريقين شكوك وحقد كبيران، إلا أن الرسول أكسب الجيش الجديد هوية جديدة ونظاما عسكريا صارما.
وترى الدراسة أن المقاتلين العرب قبل الإسلام كانوا فقط يهتمون بمصالحهم المباشرة والمحدودة، فقد كان الهدف من القتال الحصول على غنائم مادية، لذا غاب عن العرب مفهوم الجيوش النظامية.
وكانت الحروب في الجزيرة العربية صغيرة محدودة متكررة. ولم يكن هناك ضابط أو رابط لتوقيت المعارك، أو موعد تجمع المقاتلين، فقد كان ينضم المقاتل وقد يغادر أرض المعركة قبل أن تنتهي إذا حظي بغنائم ترضيه. ومن أجل إصلاح هذه المعضلات، ترى الدراسة أن الرسول نجح في بناء منظومة عسكرية للقيادة والسيطرة للمرة الأولى في التاريخ العربي.
وفي النهاية يشير الكاتب إلى أن الرسول كطفل وكشاب توارث التدريب العسكري الذي كان ينتقل من الآباء لأولادهم. وللتغلب على ما وصفه الكاتب بالنقص المهاري، نجح الرسول في إحاطة نفسه بمجموعة من المحاربين المحنكين الذين كان دائما يستمع لنصائحهم العسكرية.
—————
* المصدر: جريدة الشروق المصرية (بتصرف يسير).