أحمد عبد المقصود
هل سَبَقَ أن تعلّمت دروسًا كبيرة من رجل لم يجمعك به سوى دقائق عابرة، ولم يمر في حياتك إلا كالطيف الذي يومض ثم ينطفئ كالبرق الخاطف؟!
هذا ما كان من خبري مع الداعية الصالح، وأحد روّاد العمل الخيري الشيخ محمود عبد الباقي المعروف بأبي خطاب الذي وافته المنية، أمس الخميس، في أثناء إلقائه كلمة في جمع من الحضور في أحد الأفراح؛ حيث تحشرج صوته فجأة وهو يتكلم عن حال الرسول صلى الله عليه وسلم مع أهل بيته، فكان آخر كلمة نطق بها –حسب ما انتشر في مقطع “فيديو” شاهده الملايين في ساعات معدودة- هي “لا إله إلا الله”.
لقد انتشر “فيديو” اللحظات الخير لأبي خطاب على مواقع التواصل الاجتماعي وتداوله مغرّدون من الكويت وتركيا والسعودية ومصر والجزائر وأوروبا، وأحيا ذلك الخبر ذكرى معرفتي بالرجل، ورحت ليلتي أفكّر في اتصال عابر به ذات مرة، بخصوص الكتب التي كان يتبرع بها المحسنون للجنة زكاة العثمان (مقر عمل الشيخ رحمه الله)؛ حيث كان حريصا على أن يعم نفعها محبي القراءة وعشاق الكتب.
لقد كان هذا الاتصال الدافئ، بالإضافة إلى لقاء سريع قبله، هو الذي عرفته فيه حيًا، وذلك الفيديو القصير الذي انتشر للحظات قبض روحه هو الذي عرفته فيه ميتا؛ فإذا الرجل قد علمني في دقائقه تلك ما لم أتعلمه في كتاب، أو أناله من صحبة أساتذة وأصدقاء.
– علمني أبو خطاب أن من عاش على شيء مات عليه؛ فحياة الرجل المديدة في العمل الخيري وبذل النفع للناس، انتهت وهو مرابط على ثغر النصح والإرشاد وتوجيه الناس، فعاش حياته باذلًا للخير ابتداءً وانتهاءً .
– علمني أبو خطاب أن حسن الخاتمة -حالًا وتوقيتًا- هو اصطفاء من الله، ولكن من سار على الدرب وصل، وإن الله لم يكن ليخذل عبده الصالح الذي عاش على منهجه ونذر نفسه لدينه.
– علمني أبو خطاب أن حسن الخلق والبشر والبشاشة وطلاقة المحيّا أعمال مُتاحة لا يعجز عنها إنسان، ولكنها على سهولتها عظيمة الأجر ثقيلة الوزن عند الله تعالى، عميقة الأثر في نفوس الناس وقلوبهم.
– علمني أبو خطاب أن العمل لقضية الإسلام لا يقف أمامه عُمر وإن كبر، ولا يعوقه مرض وإن اشتد، وعند أبي خطاب الخبر اليقين.
– علمني أبو خطاب أن الداعية الحصيف والمسلم اليقظ ينتهز الفرص، ويقتنص المواقف، ويرى في كل مناسبة ثوابًا ينتظر من يحصّله، وأجرًا مبذولًا لا يراه إلا أصحاب المشاعر الصادقة، والقلوب العامرة بحب الخير للناس.
– علمني أبو خطاب أن رحلتنا على هذه الأرض سريعة عابرة، مهما طالت فهي قصيرة، ولا يوثّق هذه الرحلة سوى أثر صالح نتركه، أو عمل خالد نقدّمه، أو سيرة عاطرة نعيش بها بين الناس.
– علمني أبو خطاب أن من عاش بين الناس ومن أجلهم، مات مصحوبًا بدعواتهم، موَدَّعا بثنائهم الجميل.
لقد عاش أبو خطاب ومات ليكون حجة ظاهرة وبرهانًا قائمًا، على كل مُحبَط متشائم، أو قاعد متكاسل، أو منسحب منكفئ، وعبرة ناطقة لمن أراد أن يذكّر أو أراد شكورًا.
ألا رحمك الله أبا خطاب، ورفع درجتك في المهديين .
طبت حيًا وميتًا .. وسلامٌ عليك في العاملين .
وكانت في حياتك لي عظاتٌ وأنتَ اليوم أوعظ منك حيًا