نايف السلمي
يمكن القول: إن المحاولات المنصفة والعادلة للتعرف على الإسلام، والتعريف به والنقاش حوله، تضيع في السياق المعرفي الغربي في التحيزات
الأيديولوجية، كما أنها تخضع لضغط رهيب من الـ”ميديا” الغربية. هذا السياق وهذه الميديا تحوّلان عملية التعرّف على الإسلام والتعريف به إلى عملية “إعادة إنتاج له”، خاضعة لمزاج المنتجين وتحيزاتهم. ويمكن إجمال ثلاث علل، تجعل هذا النقاش حول الإسلام خطاباً يخلق الهوة ويشعل العداوة:
الأولى: “إعلامية هذا النقاش”، أي أنه صنعة إعلامية بالدرجة الأولى، قبل أن تكون معرفيةً، أو استقصائية، فالـ”ميديا” الغربية الضخمة، بكل تعقيداتها ومآربها، تستطيع أن تسحق أي صوت موضوعي علمي، يريد أن يبحث الإسلام ويتعرف على المسلمين. مثل هذا الصوت يجد صعوبة في التغلغل في أوساط الـ”ميديا” الغربية. هذا الصوت يبدو غريباً، وتبرز على حسابه الأصوات الحادة في تناول الإسلام، والمتطرفة ضد المسلمين، سواء أكانت أصوات اليمين الغربي المحافظ، التي ترى في الإسلام شيئاً من البربرية وتمارس ما يشبه المهمة الرسالية بخلفية مسيحية/ قومية، أو اليسار الغربي الذي يرى في الإسلام ثيوقراطية القرون الوسطى، ويمارس رسالته بدعوى العقلانية والتنوير، أو حتى تلك الأصوات المحايدة التي ترى في الإسلام غرابةً، تستحق أن توجد فقط في المتاحف وكتب التراث. واللافت من هذا كله، أن التنوير الانتقائي، والعقلانية المخصصة لدراسة الإسلام، فقط تجد صداها بسهولة عند مثقفين عرب يريدون أن يكونوا “مساعدي باحثين” في المعمل الغربي لدراسة الإسلام وتشريحه ونقده.
هذه الحالة المتراكمة في الـ”ميديا” الغربية صنعت ما يشبه الخطاب الأيديولوجي تجاه الإسلام. ولا يحجب الواقع، كما هو، على حقيقته، مثل خطاب الأيدلوجيا، وحتى تحضر في هذا الخطاب، وتكون أحد الفاعلين فيه، عليك أن تنسجم معه وتحترم مسلماته. ولا يحدث هذا كله نتيجة أية قوة مادية، بل نتيجة التقاليد المتوارثة والتحيزات المتراكمة التي أصبحت جبلة وعادة. في هذا النقاش، عليك أن تعرف ماذا تقول سلفاً، حين يبدأ أحد الحاضرين بالقول “هيا لنتحدث قليلاً عن الإسلام”.
العلة الثانية: “سياسية” هذا النقاش، فالإسلام في الغرب موضوع سياسي، إلى حد كبير، يكاد أن يخرج من كونه ديناً إلى كونه أحد أهم المواضيع في عواصم صنع القرار. لم تر بعض مستويات الخطاب السياسي في الغرب (المملوء برغبات الهيمنة) في الإسلام والمسلمين إلا مهدداً لهذه الهيمنة. إلا أنها، في مراحل معينة، محكومة بظروف سياسية محددة ومرحلية، رأت فيه مساعداً في إنجاز هذه الهيمنة، فالرئيس الأميركي (…) بوش الابن، شن على الإسلامية الجهادية حرباً، قال عنها إن خصومه هم كل من قرروا أن لا يكونوا حلفاءه فيها. بينما وصف الرئيس الأميركي الشهير، رونالد ريغان، المقاتلين في أفغانستان ضد الاتحاد السوفييتي (أسلاف من قاتلهم بوش) بـ”مقاتلي الحرية”. كان ريغان، الجمهوري المحافظ، يختزل الإسلام، ويرى فيه أيضاً “صديق المرحلة”، فهو لا يراه إلا خصم الشيوعية الكافرة.
العلة الثالثة: وجود وسيط يتمثل الإسلام من خلاله. إن جعل الإسلام مادة للإعلام الغربي يقتضي ذلك. لكنني لا أعرف نقاشاً حاضراً حول ما إذا كانت النازية هي تعيّن المسيحية في الواقع، وإن الصهيونية هي تعيّن اليهودية في الواقع. النقاش المجرد عادة ليس سهلاً، ولا حتى مطلوباً من الـ”ميديا”، إذا كانت تبحث عن الإثارة والإبهار والجذب، وفي الوقت نفسه، مملوءة بالتحيز والمصالح. غني عن القول مقدار التبسيط والسطحية في مثل هذا النقاش. إن أي نقاش يغفل عن تنوع العالم الإسلامي وتعقد ظروفه لا يُعرف بالإسلام والمسلمين، بل يُسهم في زيادة الهوة بين الإسلام والغرب ويملؤها بالتوتر، ويوفر مادة غزيرة لأي مسلم، يريد أن يستشنع تصورات الغرب عن الإسلام والمسلمين. هذا الوسيط المتعيّن الممثل للإسلام كان، في إحدى فترات القرن الماضي، هو الخميني بعد الثورة الإيرانية على الشاه (الموالي للغرب) وحادثة الرهائن الأميركيين الشهيرة، وقبل ذلك كان وزراء أوبك النفطية، خصوصاً بعد أزمة النفط في السبعينيات، ثم أصبح لاحقاً أسامة بن لادن والقاعدة بعد أحداث 11 سبتمبر 2001. وكأن الإسلام منتج نفط، أو إرهابي متطرف.
هذه العلل كفيلة بحجب العالم الإسلامي عن الغرب، وبحرمان الغرب من خطاب منصفٍ عن الإسلام، وبشحن المسلمين ضد الغرب. كما أن هذه العلل، أيضاً، دلالة على زيف دعوى الموضوعية والحياد في المؤسسات الغربية، كما أنها دلالة، أيضاً، على أن العلمية في الغرب، ليست من الوفرة بحيث يمكن أن تجدها في محلات “الهمبرجر”، بل هي محصورة في بعض الأكاديميا والأنتلجنسيا. كما أنها تدل على أن المهووس بالهيمنة يمتلك استعداداً مضاعفاً للظلم والتعسف والتزييف، خصوصاً إذا كانت هذه الهيمنة مصحوبةً بشعور التفوق على العالمين، والتميز عنهم.
النخب المفكرة في الوطن العربي مسؤولة أن تقف أمام هذا الخطاب لنقده وتفكيكيه وكشف زيفه. لكن، قبل ذلك، عليها أن تكف عن مناقشة الموضوع بطريقة (انظروا ماذا يقول الغرب عن الإسلام)، أو حتى بطريقة (هذا يمثل الإسلام وذاك لا يمثله!). إن استجداء كلام جميل عن الإسلام والمسلم يثبت شيئين: الأول أن هناك في العالم الإسلامي من أدمن المكوث في قفص الاتهام، باعتبار أنه مسلم، ويريد من الغرب أن يمنحه شهادة حسن سيرة وسلوك تخرجه من هذا القفص. والثاني أن السائد (إذا استخدمنا لغة علم الوراثة) في خطاب الغرب، تجاه الإسلام والمسلمين، هو الانفعال والتحيز الذي يرى فيه شيئاً مزعجاً في هذا العالم. وأن المتنحي غير ذلك.
المصدر: العربي الجديد (بتصرف يسير).