أ.خالد روشه
إني أتحدّث عن ذاك القلب الذي هو مصدر للدافعية, ومنبع للإشراق والإشعاع, ومركز للطاقة والإنجاز، ولا غرو فإنّ الداعيات إلى الله هنّ منبع الخير كلّه لهذه الأمة, قال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}. (سورة فصلت:33)
ونحاول في هذا المقال أن ندقّق في أهم مكونات وإمكانات ذات القلب المُشع بالخير والحياة, وذلك عبر مقطوعات تبصيرية موجزة, ورجاؤنا في هذا المقام الدلالة لا التفصيل.
الطاقة المفقودة
تحتاج الداعية إلى الله أن يتّصف قلبها دوماً بوجود الطاقة الدافعية التي تُمكّنها من توجيه الآخرين, وبث الروح فيهم, والحياة في قلوبهم، وتلك الطاقة كثيراً ما نفتقدها في قلوب كثير من الداعيات اللاتي ينبغي أن يوجّهن, ويقُدن, ويُعلّمن, ويُربّين.
والمدعوّة التي تشعر بافتقاد تلك الطاقة من قلب مربيتها؛ لا تلبث أن تفر منها, وتسقطها من عينها, ذلك أنّ هناك حدساً تستشعر به تلك المدعوّة قوة قلب مُربّيتها من ضعفها, ومهما حاولت الداعية أن تُلبس قلبها ثوب القوة, وتقَنعه بقناع الطاقة فإنها لن تفلح؛ لأن طاقة القلب المنبثقة من الداعية هي أمرٌ غير مرئي, يتكّون من عدة مكونات أساسية نستطيع أن نصفها أنها خليطٌ من الإخلاص, والصدق, والمروءة؛ فهي محسوسة بأثرها مختفية بذاتها؛ فهي جلية الأثر, ظاهرة, تعبّر عن نفسها حين يستطيع ذاك القلب القوّي أن يجذب الآخرين؛ حيث تتمثل فيه معاني القلب السليم.
الهمة العالية
لمّا أراد “عبد القادر الجيلاني” أن ينصح تلاميذه أوجز لهم القول بجملة واحدة؛ فقال لهم: (سيروا مع الهمم العالية) وكان ينادي بها أهل بغداد.
وصدح بها “ابن القيم” لما قارن بين حياتين, أو بين نوعين من حياة الناس؛ فقال: (لكن يغلط الجفاه في مسمّى الحياة, حين يظنّونها التنعم في أنواع المأكل والمشرب والملابس والمناكح, أو لذّة الرياسة والمال وقهر الأعداء والتفنن بأنواع الشهوات, ولاريب أنّ هذه لذة مشتركة بين البهائم؛ بل قد يكون حظ كثير من البهائم منها أكثر من حظ الإنسان, فمن لم تكن عنده لذّة إلا اللذّة التي تشاركه فيها السّباع والدّواب والأنعام فذلك ممّن يُنادى عليه من مكانٍ بعيد, ولكن أين هذه اللذّة من اللذّة بأمر إذا خالط بشاشته القلوب سلى عن الأبناء, والنساء, والأوطان, والأموال, والإخوان, والمساكن, ورضي بتركها كلّها والخروج منها رأساً, وعرض نفسه لأنواع المكاره والمشاق وهو متحلٍ بهذا منشرح الصدر به, يطيب له هجر ابنه وأبيه وصاحبته وأخيه, لا تأخذه في ذلك لومة لائم؛ حتى أنّ أحدهم ليتلقّى الرمح بصدره ويقول: فزتُ وربّ الكعبة, ويستطيل الآخر حياته حتى يلقى قوته من يده ويقول: إنها لحياة طويلة لو صبرت حتى آكلها, ثم يتقدّم إلى الموت فرحاً مسروراً). [مفتاح دار السعادة]
إنّ الهمة العالية هي سلاح القلب في كل موطن وفي كل موقف, يذود بها عن حماه, ويخترق بها المصاعب والمشاق, ويتقدم بها الصفوف, ويعتلي بها أعلى الدرجات.
الطهارة
هي مكّون أصيل من مكونات قلب الداعية؛ فهو قلبٌ طاهرٌ لا دنس فيه, لم يتلوّث بمرض شبهة ولا شهوة, وإن سقطت به كبوته ذات مرة إذا به يعود ويُنيب ويتطّهر؛ فإن الله يحب التوّابين ويحب المتطّهرين, وطهارة القلب إنّما تكون بعلاج أمراضه الكامنة فيه, والمسيطرة عليه, وقد ذكر الله سبحانه وتعالى في كتابه ذكراً حول مرض القلب؛ فقال عن المنافقين: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضًا} (سورة البقرة:10), وقال عن مرضى الشهوات: {فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ}. (سورة الأحزاب: 32)
يقول ابن القيم رحمه الله في تعليقه على قوله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} (سورة المدثر:4) قال الجمهور من المفسّرين: (ثيابك فطّهر تعني قلبك فطّهره).
أما شكل القلب الطاهر؛ فهو ذاك القلب السليم, الذي ذكره الله في كتابه بقوله: {وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ* يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ* إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} (سورة الشعراء:87-89), والقلب السليم هو الذي امتلأت جنباته بالتوحيد الخالص لله سبحانه وتعالى؛ فآثر الآخرة على الدنيا؛ فلم يحمل لأحد من المسلمين غلا ولا حقداً ولا حسداً ولا غشًّا, ولا يصل إليه عجب, ولا يتطرّق إليه كبر؛ فهو منكسرٌ بين يدي ربه, متذلّل به, يخشى من تقلّب القلوب, ويحذر الآخرة, ويرجو رحمة ربه.
تدريب القلوب
هو سؤال يلحّ علينا بعد حديثنا عن بعض مواصفات قلب الداعية, ذاك السؤال مفاده: هل نستطيع تدريب القلوب كما ندرّب الأبدان؛ حتى تصير قلوباً مؤهلة لتحمل تلك المسؤولية؟
وللجواب على ذلك دعونا ننظر إلى تلك التحولات التي حولّها الإسلام لكثير من الأشخاص؛ فتغيّرت أحوالهم, وسلوكياتهم, وأهدافهم, وآمالهم, وطموحاتهم؛ بل نستطيع أن نقول إنه قد غيّر حياتهم بالكليّة, من ظلام لا نور فيه إلى نور لا ظلام, ونستطيع أن نؤكد هاهُنا أنّ حياة هؤلاء لم تتغيّر بهذا الشكل إلا بعد تغيّر قلوبهم, وطهارتها, وسلامتها, ونقائها, وخلوصها لربها؛ حتى أن قال الله سبحانه عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين مرّوا بتلك العمليّة من التحول من الظلمات إلى النور: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} (سورة المجادلة:22).
وكثيراً ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يُلمّح ويصرّح بإمكانية تدريب القلب على التغيّر إلى الأصلح؛ فتارةً يقول: (من تصبَّرَ يُصبِّرُه اللهُ) صحيح, وتارةً يقول: (إنما الحلم بالتحلم) حسن, ولا شكّ أنّ الصبر والحلم لا يستطيع المرء أن يتّصف بهما إلا بعد أن يدرّب عليهما قلبه.
بل لقد كان يعمد النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى علاجات مختلفات لأمراض القلوب, ويأمر بالتدريب عليها, والمداومة والمكاثرة فيها؛ حتى يعالج تلك الأمراض, فتراه يعالج مرض الشهوة في قلوب الشباب؛ فيأمرهم الصوم, ويعالج البخل في قلوب مُحب المال؛ بتدريبه على الإنفاق, وتشجيعه عليه, وتعريفه بثوابه, وتحذيره من الادّخار, والمنع من الصدقة.
وقد نجحت أساليب النبي عليه أفضل الصلوات وأتم التسليم في تدريب القلوب وإصلاحها, وترك لنا منهجاً رائعاً في ذلك, فما على الداعيات إلا أن يقتدين به وبأساليبه؛ فيسرن في ركب القلوب السابقة.
المصدر: موقع دعوتها.