د. رمضان فوزي بديني (خاص بموقع مهارات الدعوة)
إذا كان قيام الليل هو شرف المؤمن كما ورد في الحديث النبوي “… واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل وعزه استغناؤه عن الناس” فلا ينبغي للمؤمن أن يفرط في شرفه؛ فإذا
كان هذا المؤمن محسوبا على الدعاة إلى الله تعالى فيجب أن يكون أحرص الناس على هذا الشرف؛ فكونه داعية إلى الله تعالى يقتضي منه أن يتميز عن الناس، وأن يكون له حاله مع الله تعالى، يستمد منه العون، ويأنس إليه، ويأوي إلى ركنه الشديد، بعد مخالطة الناس ومكابدة أدوائهم ووعورات طبائعهم.
ولذلك فالداعية بحاجة إلى زاد إيماني وتربوي يعينه على لأواء الطريق ومشقتها، وتتنوع أسباب هذا الزاد ومظاهره، ويأتي على رأسها قيام الليل، وقد وجه المولى عز وجل رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم إلى ذلك في قوله تعالى له في بداية دعوته: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً * نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلا ثَقِيلاً * إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطئًا وَأَقْوَمُ قِيلاً * إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلاً} (المزمل: 1-7)؛ فقيام الليل وترتيل القرآن على رأس زاد الداعية للتهيؤ للقول الثقيل الذي سيقوم به في طريق الدعوة إلى الله تعالى، فناشئة الليل أشد نشاطا للمصلي وأخف على نفسه وبدنه..
ويقول أ. سيد قطب معلقا على هذه الآيات: “وإن قيام الليل والناس نيام, والانقطاع عن غبش الحياة اليومية وسفسافها; والاتصال بالله, وتلقي فيضه ونوره, والأنس بالوحدة معه والخلوة إليه، وترتيل القرآن والكون ساكن، وكأنما هو يتنزل من الملأ الأعلى، وتتجاوب به أرجاء الوجود في لحظة الترتيل بلا لفظ بشري ولا عبارة، واستقبال إشعاعاته وإيحاءاته وإيقاعاته في الليل الساجي.. إن هذا كله هو الزاد لاحتمال القول الثقيل، والعبء الباهظ والجهد المرير الذي ينتظر الرسول وينتظر من يدعو بهذه الدعوة في كل جيل! وينير القلب في الطريق الشاق الطويل، ويعصمه من وسوسة الشيطان، ومن التيه في الظلمات الحافة بهذا الطريق المنير” (في ظلال القرآن).
أهمية قيام الليل للداعية
إن الحديث عن أهمية قيام الليل بالنسبة للداعية يختلف عنه لعموم الناس؛ فحال الداعية يختلف عن غيره من عموم الناس؛ نظرا لشرف رسالته وسمو مهمته التي يتميز بها على بقية الخلق؛ فتميز المهمة والرسالة يقتضي تميز الهمة والعبادة.
ويمكن تلخيص ذلك في النقاط التالية:
1-تحصل الأجور والفضائل التي وعد بها قوام الليل عموما؛ مثل: تحصل أجر أفضل الطاعات، وتكفير السيئات، وطرد الغفلة عن القلب، وشهود تجلي الرحمن على السماء الدنيا، والفوز بمحبة الله، ومباهاة الله لملائكته بعباده وإجابة الدعاء…
2-تحقق القدوة العملية في الداعية بفعله ما يدعو الناس إليه من قيام وترتيل القرآن.. ففاقد الشيء لا يعطيه، ولا يستقيم الظل والعود أعوج.
3-اللجوء إلى الله تعالى فيما صعب عليه في دعوته، والاستنصار به على الخصوم من شياطين الإنس والجن، الذين يعترضون طريق أصحاب الدعوات.. فسهام الأسحار لا تخطئ، ورب العزة يتنزل على عباده القائمين في الثلث الأخير من الليل، وهذا ما جعل الفضيل بن عياض يقول: “إذا غربت الشمس فرحت بالظلام لخلوتي بربي، وإذا طلعت حزنت لدخول الناس علي”.
4-استفتاح الله عز وجل للقلوب المغلقة والعصية عليه من المدعوين؛ فالقلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف شاء، والهدية والتوفيق ليس لهم باب إلا بابه عز وجل القائل لرسوله الكريم: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (القصص: 56).
5-الشعور بمعية الله تعالى، واستحضار أنه في كنف قوي عزيز لا يضام من لجأ إليه ولاذ به، وهو ما يعطي الداعية قوة روحية وطاقة نفسية يتزود منها في طريقه. قال مالك بن دينار: “إذا قام العبد يتهجد من الليل قرُب منه الجبار عز وجل. وكانوا يرون ما يجدون من الرقة والحلاوة في قلوبهم والأنوار من قرب الرب تعالى من القلب، وهذا له سر”.
6-قيام الليل يكسو وجه الداعية نورا وبهاء؛ وهو ما ييسر مهمته، ويكتب له القبول عند الناس فيفتحون له قلوبهم قبل عقولهم..
7-يعين الداعية على حفظ القرآن وتثبيته؛ فمن الأمور المعينة على تثبيت الحفظ تلاوة القرآن في الصلاة؛ وهو ما يعين الداعية على استحضار الأمثلة القرآنية في أثناء خطابته وإلقائه الدروس ووعظ الناس.
8- قيام الليل خاصة إذا كان بعد نوم فيه تدريب للداعية على مجاهدة نفسه، وتعويدها على تحمل المشاق والاستعداد لوعورات الحياة؛ فإذا استطاع أن يتحكم فيها؛ بحيث تترك الفراش الوثير لتقوم بين يدي الله رب العالمين؛ فإنه سيسلس له قيادها فيما دون ذلك من الأمور..
9-قيام الليل يعين الداعية على تنظيم وقته والتخطيط لحياته وحسن إدارة ذاته؛ فحتى يتهيأ له القيام ويحافظ عليه لا بد من الأخذ بالأسباب المعينة، والتي يأتي على رأسها ترتيب الأولويات، وحسن استثمار كل الأوقات.
10- قيام الداعية لليل ومحافظته عليه يجعله موصولا بحبل متين بالداعية الأول صلى الله عليه وسلم الذي فرض عليه قيام الليل في بداية دعوته عليه وعلى من معه، ثم نسخ الأمر بعد ذلك وأصبح مستحبا في حق أمته، وبقي الوجوب في حقه هو صلى الله عليه وسلم.
المعينات على قيام الليل
ذكر ساداتنا العلماء وأهل التجربة أسبابا معينة على قيام الليل لمن كان ذا همة وعزيمة من عموم المسلمين؛ مثل: الاستعانة بالله، والنوم مبكرا، والاستعانة بمن يوقظه، والنوم على طهارة، ومعرفة الثواب العظيم، والتقليل من الأكل والشرب، والابتعاد عن المعاصي التي تحرم من الطاعات… إلخ.
ولكن إذا كان الداعية عليه من الواجبات والأعباء الدعوية ما يختلف عن غيره من عموم المسلمين؛ فإن الأمر يحتاج من المعينات على القيام ما يزيد على غيره.. ومن ذلك بالإضافة لما سبق من أسباب عامة:
1-استشعاره عظم المسؤولية وثقل المهمة الملقاة عليه؛ وهو ما يحتاج لطاقة وزاد يختلف عن غيره من الناس، مستصحبا في ذلك التربية الربانية لخير الدعاة صلى الله عليه وسلم، كما مر في الحديث عن مفتتح سورة المزمل، خاصة في بداية البعثة.
2-حسن إدارة الداعية لذاته وترتيب مهامه الدعوية؛ بحيث لا تشغله المهام الدعوية عن صلاة القيام، أو يشغله القيام عن مهامه الدعوية؛ فالمطلوب التوازن، وتقدير كل أمر قدره..
3-يفضل تخصيص يوم أو يومين في الأسبوع يلزم فيهما الداعية نفسه بالقيام؛ بحيث يمكنه فيهما التخفف من بعض الأعباء الدعوية الأخرى.
4-ينوع بين القيام بعد نوم في الثلث الأخير من الليل –وهو المستحب- والقيام قبيل النوم ولو بركعتين خفيفتين في بقية الأيام؛ حتى لا يحرم نفسه فضل القيام.
5-يستعين بأهل بيته في ذلك بحيث يعينونه على القيام، ويعينهم هو عليه من خلال أوقات وأيام متفق عليها للصلاة الجماعية، يلتزم فيه جميع أهل البيت بما يعين على القيام..
6-يمكن الاستعانة ببعض إخوانه من الدعاة بحيث يذكِّر بعضهم بعضا، ويعين بعضهم بعضا، ويمكنهم الاجتماع على القيام مرة كل أسبوع أو كل شهر، إن تيسر ذلك..
7-مطالعة حال أسلافه من الدعاة، وكيف كان حالهم مع الله تعالى، وما تميزوا به عن بقية الناس من عبادات وقربات لله تعالى..
8- الاجتهاد في بقية النوافل والطاعات، وإلزام نفسه ما لا يلزم العامة من صيام تطوع كثرة تلاوة للقرآن ومحافظة على الأذكار… فالطاعة تجر أختها..
9- استحضار نية القيام حتى لو يتمكن من الصلاة؛ حتى إذا ضاق به وقته بالأعباء الدعوية والسعي في حوائج الناس فلا يُحرم أجر القائمين؛ فالسعي في حوائج الناس ربما يفوق التعبد والاعتكاف إذا خلصت النيات، واستقامت العزائم..
10- إدراك فضائل قيام الليل للداعية التي أشرت إليها سالفا، واستشعار تأثير ذلك على دعوته، وأنه من أقصر الطرق لقلوب الناس..
وبعد.. أخي الداعية فلا تحرم نفسك من هذا الخير الوفير والأجر العميم والفضل الكبير، فما أحلى أن تختلي بربك والقوم هجع، ويمتد حبلك بسيد العُبَّاد والرُكَّع، فلا تهتم بعد ذلك إن بقية الحبال تتقطع؛ فتناجي ربك الذي يرى ويسمع؛ فيجيب دعاك ويعطيك في دنياك وأخراك ما ينفع..