القائمة الرئيسية
 الانفصام الدعوي (2 /5).. مع النفس

مسجد باريس الكبير.. منارة إسلامية ثقافية

باريس: د . محمد الغمقي

«مسجد باريس الكبير» منارة إسلامية في قلب العاصمة الفرنسية، وتحديداً الدائرة الخامسة، حيث ارتبط اسم هذا المسجد بهذه الدائرة التي يتواجد فيها، وهي إحدى الدوائر

مسجد باريس الكبير

مسجد باريس الكبير

العشرين لباريس، وتشتهر بكونها قلب الحي اللاتيني المتضمن لأشهر المؤسسات العلمية، مثل: جامعة السربون، والمكتبات المتخصصة، ومعهد العالم العربي، والمباني التاريخية، مثل: «البونتايون» الذي يوصف بمقبرة عظماء فرنسا، وكذلك مجلس الشيوخ الغرفة الثانية للبرلمان الفرنسي.. شهد هذا الصرح الإسلامي أحداثاً تاريخية مهمة خلال القرن الماضي منذ تأسيسيه سنة 1926م.

الفن الأندلسي

أول ما يشد انتباه الزائر وهو يقترب من هذا المسجد مئذنته التي ترتفع إلى طول 33 متراً على نمط صومعة مسجد جامع الزيتونة العريق بتونس، في مدينة مشهورة بطابعها الأوروبي الخاص. ويزيد هذا الشعور بالفارق الكبير في الهندسة المعمارية لهذا البناء مع محيطه على مشارف الحي اللاتيني في منطقة حديقة «النبات» بباريس، عندما يكتشف المرء اتساع هذا الصرح الإسلامي الذي يقوم على مساحة كبيرة تقدّر بـ(7500) متر مربع، على أنقاض مستشفى «الرحمة» الذي تم نقله سنة 1911م إلى مكان آخر.

وأول ما يعترض الزائر وهو يدخل من الباب الرئيس حديقة جميلة تتسع لـ(3500) متر مربع، تذكّر بحدائق قصر «الحمراء» في «غرناطة». ويغلب الطابع الأندلسي على الهندسة المعمارية للمسجد المستوحاة من الفن الأندلسي بمدينتي «فاس» المغربية، و«تلمسان» الجزائرية. ويتجلى ذلك خاصة في النقوش التي تغطي جدران هذا الصرح من الداخل، خاصة في مستوى البهو الكبير خارج قاعة الصلاة على يمين الحديقة. ويغلب على هذه النقوش اللون الأزرق عنوان الماء، ويذكر بصفاء زرقة السماء.

وباعتبار أن اللون الأخضر هو اللون الذي يُعرف به الإسلام، تم استخدام هذا اللون لتزيين شرفات البهو الذي تتوسطه نافورة جميلة. كما تمت تغطية البهو بمادة بلاستيكية بيضاء حتى يتم استغلاله كمكان للصلاة يوم الجمعة.

أما قاعة الصلاة فهي أيضاً تحفة معمارية تجمع بين الطابع القديم والحديث، حيث تم الاحتفاظ بالطريقة التقليدية في الإنارة، وتوجد ثريا معلقة في قبة المسجد تزن (300) كلج، كما يوجد على يمين المحراب منبر قُدّم هدية من الملك «فؤاد» ملك مصر.

كان زوَّار المسجد من السائحين يدخلون قاعة الصلاة في مكان غير مغطى بالزرابي، ثم تم منعهم من ذلك بعد احتجاجات المصلين على دخول غير المسلمين إلى مكان طاهر ووقوفهم وراء المصلين وهم يؤدون الصلاة. ولهذا أصبح السائحون يقفون على أبواب قاعة الصلاة دون الدخول إليها.

من الجهة المقابلة لقاعة الصلاة توجد مكتبة تدل على عراقة المكان بما تحتويه خزائنها من بعض المخطوطات، وبما تزين به جدرانها من صور تذكارية. وتستخدم المكتبة مكاناً لاجتماعات دعوية وتربوية، في حين خصصت قاعة كبرى مقابلة للحديقة وقريبة من الإدارة للأنشطة الكبرى، مثل: المحاضرات، والندوات، ومعارض الكتب، والاجتماعات بين الهيئات الإسلامية، أو مع بعض الأطراف الرسمية، ذلك أن مسجد باريس الكبير مؤسسة إسلامية ثقافية، قامت بأدوار مهمة طوال تاريخها في مستويين: الدائرة الإسلامية والدائرة الرسمية.

ولا يقتصر الجانب الثقافي على البعد المعرفي، بل يشمل أيضاً الجانب المادي والترفيهي، حيث يوجد خارج المسجد من الجانب الخلفي حمام على الطريقة التركية، وقاعة شاي، ومطعم يقدّم أكلات عربية مشرقية ومغاربية، يُقبل عليها السواح من كل بلاد العالم، وهم يعبّرون عن إعجابهم بهذه المؤسسة بكل أجنحتها ومرافقها، وجمعها بين الطابع الديني والثقافي.

الدور الدعوي

لا يمكن فصل الوجود الإسلامي في فرنسا عن هذه المؤسسة، باعتبار العلاقة التاريخية بين الكيان الإسلامي في هذه البلاد، والرمزية الدينية والثقافية الإسلامية لهذه المؤسسة التي أصبحت قبلة كل مهتم بالشأن الإسلامي من الباحثين وأصحاب الديانات الأخرى. ولعل من أهم القاصدين للمؤسسة -عدا روّاد المسجد- الراغبين في اعتناق الإسلام الذي يُنعت بالديانة الثانية في أوروبا.

لذلك، يقوم المسجد بتقديم دروس للتعريف بالإسلام وحضارته، من أجل رفع الشبهات التي ألصقت بهذا الدين على مرّ التاريخ، خاصة من طرف بعض المستشرقين الغربيين، ومنهم نسبة من الفرنسيين الذين أساؤوا في عرض الإسلام ديناً وحضارة وفكراً.

ويمكن التوقف عند أسئلة السياح الذين يزورون هذه المؤسسة لمعرفة مدى الجهل والتشويه اللذين طالا الإسلام، واتساع الصور النمطية السلبية التي تختزله في ديانة تشجع على العنف، وعلى احتقار المرأة، وتنشر التخلف. الأمر الذي يلقي المسؤولية على إدارة المسجد في تعيين من يتولى مهمة الدليل السياحي داخل هذه المؤسسة، والاهتمام بتكوينه حتى لا تكون الأجوبة مجانبة للصواب.

في هذا السياق، تجدر الإشارة إلى «معهد الغزالي» التابع للمؤسسة باعتباره معهداً إسلامياً لتدريس الشريعة الإسلامية وتخريج الأئمة. ولعل من أهم المؤسسات التي يحتاجها المسلمون اليوم خاصة في الغرب هذا النوع من المؤسسات التعليمية لنشر العلم الشرعي الصحيح بعيداً عن كل مظاهر الإفراط والتفريط.

الخلفية الجزائرية

 كما أن من أبرز المؤاخذات على مؤسسة مسجد باريس الكبير أنها بقيت تدور في فلك المصالح الجزائرية الرسمية، والتركيز على الانتماء الجزائري، دون الأخذ بالاعتبار التطورات الحاصلة في صفوف الوجود الإسلامي في فرنسا خاصة على مستوى التركيبة المتنوعة والاهتمامات والطموحات التي لا تلتقي بالضرورة مع مشاغل البلاد الإسلامية جنوب المتوسط.

 تجدر الإشارة إلى أنه تعاقب على رئاسة هذه المؤسسة شخصيات كلها من أصل جزائري، بداية من قدور بن غبريت، المؤسس لمسجد باريس، وأول مدير له من سنة 1922م حتى سنة 1954م، ويوجد قبره خلف حديقة مسجد باريس. وقد تقلد قبل توليه رئاسة المسجد منصب قنصل فرنسا العام خلال الحرب العالمية الأولى، وتدرج في السلك الإداري الفرنسي بالمغرب إبان الحماية سنة 1892م، وتذكر بعض المصادر الدور الذي قام به مسجد باريس في عهد مؤسسه الأول من حيث التقريب بين المسلمين وأصحاب الأديان الأخرى، فخلال الحرب العالمية الثانية آوى اليهود، وبذل الحماية لهم، وتقدر الباحثة الجزائرية ناجية بوزعران عدد اليهود الناجين من قبضة النازيين تبعاً لذلك بألف وستمائة يهودي.

بعد وفاة المؤسس، خلفه ابن أخيه أحمد بن غبريت من سنة 1954م حتى سنة 1956م، في فترة شهدت تطورات سياسية كبرى في المستعمرات الفرنسية في المنطقة المغاربية، وأهمها استقلال كل من تونس والمغرب. الأمر الذي يفسر حرص فرنسا الاستعمارية في ذلك الوقت على تثبيت الدور الجزائري بحكم بقاء الجزائر مستعمرة فرنسية. تزامن ذلك مع تعيين حمزة بوبكر عميداً لمعهد ومسجد باريس من سنة 1957م حتى سنة 1982م، وهي فترة دقيقة استقلت فيها الجزائر مع بقاء آثار الحقبة الاستعمارية وتداعياتها على العلاقات بين البلدين.

وكان لهذا الرجل من الحنكة الدبلوماسية ما جعله يتجاوز هذه المرحلة، إضافة إلى إسهاماته العلمية، حيث ترك بصمات عميقة على الإسلام في فرنسا بحكم ثقافته الواسعة واطلاعه على الثقافتين الإسلامية والغربية، وقام بترجمة القرآن الكريم إلى الفرنسية، وأصدر كتباً أخرى منها «العقد المعاصر للشريعة الإسلامية». ثم خلفه في رئاسة مؤسسة مسجد باريس من سنة 1982م حتى سنة 1989م عباس بن الشيخ الحسين، الذي قام بإصلاحات في المسجد. وخلفه تيجاني هدّام من سنة 1989م حتى سنة 1992م، وهو طبيب عمل قبل وبعد رئاسته للمعهد في مناصب سياسية عليا في الجزائر التي عاشت حقبة سوداء بعد انقلاب الجيش على المسار الانتخابي، الذي أفرز نجاح الجبهة الإسلامية للإنقاذ في التشريعيات، ثم خلفه العميد الحالي الطبيب د.دليل بوبكر، الذي تولى أول رئاسة للمجلس الفرنسي للديانة المسلمة الجهة الممثلة دينياً للمسلمين لدى السلطات الفرنسية.

ويدور اليوم جدل كبير حول هذا المجلس الذي شهد تراجعاً في نشاطه بسبب تداعيات الخلافات بين مكوناته، والتي ترجع أساساً إلى التجاذبات بين منظمات تمثل الطرف المغربي، وبين الطرف الجزائري ممثلاً في مسجد باريس الكبير الذي يعتبر مظلة للجمعيات الجزائرية التابعة له، من خلال توفير أئمة المساجد، وخطباء الجمعة، وتحمل رواتبهم، وقد انعقدت اجتماعات عدة داخل مسجد باريس، من أجل تجاوز الخلافات والتعقيدات، ولكن يبدو أن وضع هذه المنظمة الممثلة للمسلمين في فرنسا بقي رهين التجاذبات السياسية بين دولتي المغرب والجزائر، اللتين تحرص كل منهما على خدمة مصالحها، من خلال توظيف ملف تمثيل المسلمين.

ثقل البعد التاريخي

ويقود الحديث عن ملف تمثيل المسلمين إلى خصوصية العلاقة بين الجهات الرسمية الفرنسية ومسجد باريس الكبير، التي تعود إلى تاريخ تأسيسه، إذ كانت نقطة انطلاق هذه المؤسسة بمبادرة فرنسية في شكل مشروع تقدمت به لجنة «أفريقيا الفرنسية» سنة 1895م لم يجد صدى، ثم تبلور مع بداية القرن العشرين وتحديداً بعد الحرب العالمية الأولى التي دفع فيها 70 ألف مسلم حياتهم ثمناً للدفاع عن فرنسا وتحريرها من النازية.

وتحمس مجدداً لنفس المشروع المفكر والصحفي الفرنسي «بول بورداري» Paul Bourdarie صاحب مجلة «السكان الأصليون» Indigène، مبرراً ذلك بالاعتراف بالجميل لما قدمه المسلمون لفرنسا، وأهمية التواصل الحضاري بين العالمين الغربي والإسلامي، وأسس من أجل ذلك «لجنة المؤسسة الإسلامية» سنة 1916م، وآتت هذه الجهود ثمارها بتزايد مؤيدي المشروع من المثقفين والسياسيين، وهو ما جعل البرلمان الفرنسي يصادق عليه في يوليو 1920م بأغلبية ساحقة (247 صوتاً ضد 11)، ورصدت ميزانية 500 ألف فرنك للبناء، كما تبرعت بلدية باريس بالمكان، على الرغم من أن قانون 1905م -الحجر الأساس للعلمانية الفرنسية- يمنع دعم وتقديم أي مساعدة لأي دين.

دشّن مسجد باريس، وفتح أبوابه للمصلين والزائرين في 15 يوليو 1926م الموافق لسنة 1344 هـ بحضور «جاستوندومارج» Gaston Doumergue والسلطان المغربي يوسف ابن الحسن الأوّل، ومدير المسجد قدور بن غبريت. وكان العالم أحمد بن الحاج العياشي سكيرج -وهو أحد أقطاب الطريقة الصوفية التيجانية بالمغرب- أول من خطب وصلى بالناس في أول جمعة في هذا المسجد، الذي يعتبر أول مسجد على التراب الفرنسي يبنى في بداية القرن العشرين. وباعتبار أن المسجد أقيم في أوج الحقبة الاستعمارية، فقد انتقد بعض السياسيين من رموز الحركة الوطنية المقاومة للاستعمار هذا المشروع، حيث قام مصالي الحاج -أحد رموز المقاومة الجزائرية- عشية تدشين المسجد بأول اجتماع لجمعية «نجم شمال أفريقيا»، وانتقد ما أسماه «مسجد المزاد العلني».

وتتحمل الجهات الرسمية الفرنسية قسطاً من المسؤولية في التصاق المسجد بالمصالح السياسية الفرنسية مع بلاد المغرب العربي، حيث تعاملت الحكومة الفرنسية مع مؤسسة مسجد باريس باعتباره الجهة الممثلة الوحيدة لمسلمي فرنسا، والناطق الرسمي لهم، وذلك إلى وقت قريب. بل إن «ساركوزي» قام -بصفته وزيراً للداخلية- بكل الضغوط من أجل ترشّح د. دليل بوبكر رئيساً للمجلس الممثل للمسلمين، وهو ما أثار إشكالات لدى الأطراف الأخرى المكوّنة للمجلس. وبالرغم من هذه الانتقادات، فإنها لا تنقص من دوره الدعوي والثقافي البارز، ومن عراقته، باعتباره أحد المعالم الدينية الكبرى في فرنسا.

——

المصدر: مجلة المجتمع الكويتية (بتصرف يسير).

مواضيع ذات صلة