الصدق
“يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله و كونوا مع الصادقين” (سورة التوبة/ الآية 119).
يفهم كثيرون الصدق على أنه صدق اللسان في الأقوال فحسب، و الحقّ أن الصدق منهج عام، وسمة من سمات شخصية المسلم في ظاهره و باطنه، وقوله و فعله، ومن ذلك:
أ – الصدق في حمل الدين:
بأن يكون تدين المرء تديناً صحيحاً مبنيـَّـاً على الصدق مع الله عز و جل، لا على النفاق والكذب والمجاملة، ولذلك يطلق الصدق في القرآن الكريم في مقابل النفاق: “ليجزي الله الصادقين بصدقهم، ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم” ( سورة الأحزاب/ الآية 24).
فلا بد من الإسلام الظاهر مع الإيمان الباطن، لا بد من حسن الاعتقاد بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين.
فالهدي الظاهر لا بد أن يكون متوافقا مع الهدي الباطن.
وهنا كمين من كمائن الشيطان يوحي للداعية بترك بعض الأعمال الصالحة الظاهرة بحجة أن باطنه ليس كذلك.. فلا تفعل لئلا ينخدع الناس بك!
وهذا خطأ كبير.
بل العمل الصالح الذي تزاوله بجوارحك هو من أسباب صلاح قلبك و صدقه، ما دمت لم تعمله رياء ولا سمعة ولا على سبيل خداع المؤمنين.
ب – الصدق في الأقوال:
و الصدق في القول تعبير عن شخصية واضحة ، ومروءة و شهامة و كرم، ولا يلجأ للكذب إلا لئيم الطبع، خبيث النفس، ضعيف الشخصية، والفطرة السليمة تستعيب الكذب وتستقبحه، ولذلك أجمعت الديانات السماوية على تحريمه وتجريمه.
فما بالك بالداعية.. أتراه يتصور صدور الكذب منه؟!
أعتقد – إن شاء الله – أن: لا.
و لكن:
من الدعاة من يتوسع في “التورية” بأن يقول كلاماً يفهمه الناس على خلاف ما يقصد، وقد يكتشفون بعد أن الواقع على خلاف ما فهموم منه فيتهمونه بالكذب. ثم إن التوسع في التورية قد يؤدي إلى التسامح في بعض “الكذيبات” بحجة أنها للمصلحة!! فالحذر الحذر!
أيها الداعية: حين يلجؤك الموقف إلى الكذب فلا تقدم عليه، وتذكر كلمة “أبي سفيان” أمام هرقل حين سأله عن رسول الله صلى الله عليه و سلم، فقال:
“والله لولا أن يؤثروا عني كذباً لكذبت“! (1)
لقد تجنب هذا الرجل – و كان جاهليَّاً- أن يكذب خشية أن ينقلوها عنه، أو يعيروه بها يوماً من الدهر، مع شدة حاجته إليها. ونحن نعلم أن أعراض الدعاة اليوم أصبحت هدفاً لسهام كثيرة، ولذا يتعين على الداعية أن يغلق الباب الذي تأتيه منه الريح، ليريح ويستريح!
جـ – الصدق في الأعمال:
وهو يعني أن تكون أعمال الإنسان خالصة لوجه الله تعالى من الرياء والسمعة، “فمن كان يرجو لقاءَ ربّه فليعمل عملاً صالحاً، ولا يشرك بعبادة ربه أحداً” (سورة الكهف/الآية 110)، و قال: “ليبلوكم أيكم أحسن عملاً” (سورة الملك/الآية 2).
قال الفضيل بن عياض: أيكم أحسن عملاً، أي: أخلصه وأصوبه.
قيل: يا أبا علي! ما أخلصه وأصوبه؟
قال: إن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل، لا يقبل حتى يكون خالصاً صواباً!
ومن الصدق في الأعمال: الوضوح و تجنب الغموض و لتلبيس.
روى أبو داود و النسائي أن عثمان بن عفان رضي الله عنه جاء بعبد الله بن سعد بن أبي السرح وقد أهدر رسول الله صلى الله عليه و سلم دمه، حتى أوقفه على رسول الله صلى الله عليه و سلم، فقال: يا نبيّ الله! بايع عبد الله.
فرفع رسول الله صلى الله عليه و سلم رأسه فنظر إليه مرتين أو ثلاثاً، كل ذلك يأبى أن يبايعه، ثم بايعه بعد الثلاث، ثم أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه فقال: “أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حيث رآني كففت يدي عن بيعته فيقتله؟!” .
فقالوا: ما ندري يا رسول الله ما في نفسك، ألا أومأت إلينا بعينك؟ قال عليه الصلاة والسلام: “إنه لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين!!“. (2)
إلى هذا الحد كان مدى “الصدق” في أعمال النبي صلى الله عليه و سلم، لم يرض أن يقتل عدوه اللدود الذي كان أهدر دمه بطريقة غامضة عن طريق الإيماء بطرف العين!! وكان هذا دأبه وديدنه طيلة حياته صلى الله عليه وسلم، ولذلك لم يستطع المشركون في بداية الدعوة أن يتهموه بالكذب، بل قالوا: شاعر.. ساحر.. مجنون.. و لم يصدقهم الناس، وعندما فقدوا صوابهم وأعيتهم الحيل صرخوا: كذاب.. و لكن هيهات أن يصدقهم الناس!
و روى الترمذي عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال: لما قدم النبي صلى الله عليه و سلم، المدينة انجفل الناس إليه، وقيل: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجئت في الناس لأنظر إليه، فلما استثبتُّ وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب، وكان أول شيء تكلم به أن قال: “أيها الناس! أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام“. (3)
لقد سرى صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، من القلب إلى اللسان.. إلى الجوارح وتجلى على محيا وجهه الكريم.. فكل من نظر إلى طلعته وإشراقها وصفائها قرأ فيها الصدق وعرف أن وجهه ليس بوجه كذاب!
نحن نحتاج إلى نمط من الدعاة آثروا الصدق في أقوالهم وأفعالهم حتى أصبح الصدق سجية تجري في عروقهم، وتطل من طلعات وجوههم، فإذا رآهم الناس قالوا: هذه ليست بوجوه كذابين!
كما نحن بحاجة إلى دعاة يتجملون بالخلق الكريم، ويتأبون على الاستفزاز فيحتفظون بهدوئهم واعتدال منطقهم في سائر الأحوال حتى إذا أبصر الناس منهم هذا هتفوا: هذه أخلاق أنبياء!
إن صدقنا في حمل دعوتنا هو الذي يجعل الناس يتقبلون ديننا، وليس يليق بنا أن نكون كالممثل على المسرح، يظهر للناس بهيئة خلاف حقيقته، فمثل هذا سرعان ما ينكشف أمره، ويعرض الناس عنه.
نقل عن بعض السلف أنه كان إذا وعظ أبكى الناس، حتى تختلط الأصوات ويعلو النحيب، و قد يتكلم في المجلس من هو أغزر منه علماً، وأجود منه عبارة، فلا تتحرك القلوب ولا يبكي أحد!
فسأله ابنه يوماً عن هذا، فقال: يا بني لا تستوي النائحة الثكلى والنائحة المستأجرة!
إذن فالوسيلة الأولى لنجاح الداعية هي: صدقه في حمل دعوته، وجديته في ذلك، وأن يكون الصدق في الأقوال والأعمال منهجه وشعاره. ليس المهم هو الكلمات المنمقة المعسولة – وإن كانت مطلوبة -، إنما الأهم من ذلك الصدق، وأن يكون منسجما مع نفسه، وأن يكون حديثه عن معاناة، وقديماً قيل:
الكلمة إذا خرجت من القلب وقعت في القلب، و إذا خرجت من اللسان لم تتجاوز الآذان!!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) رواه البخاري.
(2) رواه أبو داود 2683، والنسائي 4067 والحاكم 3/45، وله شاهد عند أبي داود 3094 وأحمد (3 /151) من حديث أنس و لفظه “إنه ليس لنبي أن يومض”. و انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة 1723 .
(3) أخرجه أحمد 5/451، و الترمذي 2485، و ابن ماجه 3251.
___________________________
المصدر: من كتاب سلسلة نحو ترشيد الصحوة للدكتور سلمان بن فهد العودة، دار الوطن للنشر– الطبعة الأولى- ربيع الأول 1411هـ.