هند بنت مصطفى شريفي
وهو من علامات الصدق في الأقوال والأفعال، حيث تعرض الدعوة واضحة كالشمس بلا غبش أو تضليل، وتصدر تصرفات الداعية عن يقين واقتناع ووضوح، فيصدع بكلمة الحق لا تأخذه في الله لومة لائم، ودون أن يميل إلى استمالة الناس، بالإغضاء من قيم الدعوة، تحقيقاً لما يحسبه من مصلحة الدعوة، أو يتخذ أساليب ووسائل لا تستقيم مع موازينها ومنهجها المستقيم، وذلك حرصا على سرعة انتصار الدعوة وانتشارها، ويغفل عن أن مصلحة الدعوة الحقيقية في استقامتها على المنهج، دون انحراف قليل أو كثير، أما النتائج فهي غيب لا يعلمه إلا الله تعالى[1].
إن لوضوح الداعية واستقامته أثراً إيجابياً حميداً في نفس المدعوّ:
فهو يشعره أولاً بقوة منطقه واقتناعه بما يدعو إليه.
وثانياً: يصُبُّ في نفسه الأمن والطمأنينة، فلا يخشى الغدر منه أو التقلب أو التذبذب، وكلها من الطباع الرذيلة المنفرة عن قبول الدعوة، كما أنها تؤدي إلى انعدام الثقة بين الطرفين، مما يضعف أثر الدعوة المرغوب.
ومن المواقف الواضحة التي لم يتخللها ضعف أو تساهل في فتح مكة، مبادرته صلى الله عليه وسلم إلى إزالة معالم الجاهلية، والأصنام المعبودة من دون الله، قبل أي أمر آخر، لأن تأجيل ذلك كفيل ببقاء قدر من التعلق بها في قلوب القرشيين، فكان من الضروري تخلية قلوبهم من ذلك، حتى تصبح صالحة لأن تملأ بالإيمان والإسلام.
وكذلك رفضه أن يقتل أحد أعداء الدين، الذين أهدر دمهم، بطريقة غامضة، وهي إيماءة بطرف عينه، واستنكاره أن يكون لنبي – وهو قدوة الدعاة- خيانة أو غدر، حتى لو كان المغدور به مستحقا للقتل، فإن ذلك مما يتنافى وأخلاق النبوة الطاهرة، وذلك في قصة عبد الله بن سعد بن أبي السرح رضي الله عنه، عندما جاء به عثمان رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأوقفه عليه، فقال: يا نبي الله، بايع عبد الله، فرفع رأسه فنظر إليه ثلاثاً، كل ذلك يأبى، فبايعه بعد ثلاث، ثم أقبل على أصحابه، فقال: “أما كان منكم رجل رشيد[2] يقوم إلى هذا حيث رآني كففت يدي عن بيعته فيقتله”، فقالوا: ما ندري يا رسول الله ما في نفسك، ألا أومأت إلينا بعينك. قال: “إنه لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين”.
قال الإمام الخطابي رحمه الله: معنى خائنة الأعين، أن يضمر بقلبه غير ما يظهره للناس، فإذا كف بلسانه وأومأ بعينه إلى خلاف ذلك فقد خان، وكان ظهور تلك الخيانة من قبل عينيه، فسميت خائنة الأعين[3].
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: “أي أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يخالف ظاهره باطنه، ولا سره علانيته، وإذا نفذ حكم الله وأمره، لم يوم به، بل صرح به وأعلنه وأظهره”[4].
ومن ذلك حرص العباس رضي الله عنه على وضوح الصورة أمام ناظري أبي سفيان رضي الله عنه، حين خلط بين النبوة والملك، فإنه لمَّا عرضت عليه جحافل المسلمين، قال: لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيماً. فلم يوافقه العباس رضي الله عنه، وقال له: إنها النبوة. فأنكر عليه ذكر الملك مجردا من النبوة -رغم حداثة إسلامه، والحاجة إلى تألفه- وإلا فمن الجائز أن يُسمى مثل هذا ملكا، حتى وإن كان لنبي، فقد قال تعالى في داود عليه السلام {وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} [5]، وقال سليمان عليه السلام {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [6]،[7] أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد خاطبه القرآن بلفظ النبوة، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا}[8]، وذلك في العديد من الآيات، فالنبوة أعلى وأشرف من الملك، إضافة إلى ما قد يُظن في الملك عادة من حرص عليه وطلب له، وعلى التسلط على رقاب الناس، فيظن أن هذا هو الهدف من الدعوة، وقد فطن لذلك هرقل حين قال لأبي سفيان رضي الله عنه: “وسألتك هل كان في آبائه ملك، فزعمت أن لا، فقلت: لو كان من آبائه ملك، قلت: رجل يطلب ملك آبائه”[9].
——–
[1] بتصرف، في ظلال القرآن 4/ 2435.
[2] معنى الرشد هنا: الفطنة لصواب الحكم في قتله، فقد كان عبدالله بن أبي السرح يكتب للرسول صلى الله عليه وسلم وارتد عن الدين، فلذلك غلَّظ عليه النبي صلى الله عليه وسلم أكثر مما غلظ على غيره من المشركين. بتصرف، معالم السنن 4/ 22.
[3] بتصرف، معالم السنن 4/ 21، وقيل خائنة الأعين: هي الإيماء إلى مباح من قتل أو ضرب، على خلاف ما يظهر ويشعر به الحال، ولا يحرم ذلك على غيره صلى الله عليه وسلم، بل هي من خصائص الأنبياء. بتصرف، الخصائص الكبرى 2/ 239.
وقد ذهب د. محمد سليمان الأشقر إلى وجهة مخالفة، فضعف رواية الحديث سندا ومتنا، انظر أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم ودلالتها على الأحكام الشرعية 2/ 34، ولعل ما ذكره الإمام السيوطي هو الوسط بين الطرفين، وبعض الأمور الدعوية يصح فيها الاجتهاد وتراعى فيها الحكمة والمصلحة، والله أعلم.
[4] زاد المعاد 3/ 465.
[5] سورة ص جزء من آية 20.
[6] سورة ص جزء من آية 35.
[7] انظر الروض الأنف 4/ 99.
[8] سورة الأحزاب آية 45.
[9] رواه مسلم في صحيحه كتاب الجهاد والسير باب كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل يدعوه إلى الإسلام 3/ 1395 ح 1773
——
المصدر: موقع الألوكة.