د. رمضان فوزي بديني (خاص بموقع مهارات الدعوة)
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيد الدعاة وخاتم النبيين.. صلى الله عليه وعلى جميع إخوانه من الأنبياء والمرسلين،
الذين أرسلهم الله بالهدى ودين الحق؛ فكانوا مشاعل هداية للسالك، ودليل وصول للحيران، فبهداهم يقتدي الدعاة والمصلحون حتى يرث الله الأرض ومن عليها..
من حكمة الله عز وجل أن جعل ذكريات خالدات لتكون منارات هاديات على مر العصور والأزمان، ومن ذلك ما مر بنا في الأيام القريبة الماضية من مناسبات مباركات ونفحات عطرات حري بالدعاة أن يستلهموا منها العبرة والعظة، ويقتبسوا من نورها شعاعا يستنيرون به في هذه المدلهمات التي تمر بها أمتنا، فالدعاة هم المنوط بهم مهمة النهوض الحضاري بالأمة من كبوتها، وبعث روح الأمل والثقة في أبنائها..
فبعد أن انقضى موسم الحج المبارك والوقوف بالبيت العتيق، مستلهمين فيه من الخليل وابنه وزوجته حقيقة الاستسلام والخضوع لله رب العالمين، جاءت ذكرى الهجرة النبوية المباركة لترسي فينا معاني التضحية بالنفس والمال في سبيل الدعوة؛ حيث خرج نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من أحب البلاد إليه باحثا عن بيئة خصبة ومناسبة لاستنبات دعوته، تاركا خلفه أهله وأحبابه.
ثم تمر علينا ذكرى نجاة نبي من أولي العزم من الرسل ألا وهي ذكرى عاشوراء التي نجى الله فيها نبيه موسى ومن تبعه من المؤمنين من الغرق، وأهلك فرعون ومن معه من العصبة الكافرة.
إن تتابع هذه المناسبات في فترة متقاربة بما تحمله كل منها من إضاءة لجانب من حياة نبي من الأنبياء الثلاثة (إبراهيم، وموسى، ومحمد عليهم السلام) يؤكد على قوة الرابطة التي تربط بين أهل الإسلام والإيمان أولهم وآخرهم، مهما اختلفت أنسابهم وأزمانهم. فالأنبياء إخوة لعلات؛ أمهاتهم شتى ودينهم واحد كما أخبر رسولنا صلى الله عليه وسلم.
إن إدراك أبعاد الهجرة وفقهها يغرس في النفس الثقة في نصر الله تعالى، ويطوي اليأس والحزن عن قلب كل مسلم يستشعر معنى قوله تعالى: {إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة 40]. فمعية الله تعالى مصاحبة للأنبياء والمرسلين، وللدعاة السالكين دربهم، ومن استشعر معية الله تعالى فلن تؤثر فيه عوامل الإحباط واليأس المؤدية إلى التثاقل إلى الأرض.
فمن يعمل أجيرا عند ملك الملوك لا تعوقه قيود العبيد، مهما اشتدت وطأتها، واستحكمت حلقاتها..
إن الهجرة وعاشوراء يحويان في طياتهما دلائل نصر الله تعالى ومعيته لعباده إذا استنفدوا كل جهدهم وأسبابهم المادية مع حسن توكلهم على ربهم واستشعارهم معيته سبحانه لهم، إذا انقطعت بهم الأسباب؛ فرسولنا صلى الله عليه وسلم ورفيقه وهما محاصران في الغار كان لسان حاله ومقاله لصاحبه: {لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا}، ونبي الله موسى حينما ضاق بهم الأمر وقال له أصحابه: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ}، كان رده القاطع الدال على منتهى اليقين والثقة: {كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ}.
وانتهى الحدثان السابقان بالنصر المبين ودحر الشرك والمشركين من حيث لم يحتسب أحد، ولم يخطر على بال بشر..
وقفات مع النفس
وإذا أحببنا أن نخرج ببعض الدروس والنصائح والوقفات مع النفس من حدثي الهجرة وعاشوراء فيمكن تلخيص ذلك فيما يلي:
- علينا المبادرة بالتوبة والأوبة والرجوع إلى الله تعالى، وهجر الذنوب والمعاصي ومحبطات الأعمال؛ فالهجرة في معناها العام رديف للتزكية والتربية والتقوى، فقد قال صلى الله عليه وسلم: “لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها” [أبو داود بسند صحيح].
- تجديد النية وإخلاص الوجهة لله تعالى، مع الاستعداد التام لتلبية نداء الحق ونصرة الدين في أي وقت؛ تنفيذا لوصيته -صلى الله عليه وسلم-: “لاَ هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا” (صحيح البخاري).
- ترك المألوف والتقلل من بعض المباحات وأخذ النفس بالعزيمة؛ فالهجرة تعني الترك والتضحية والبذل والفداء، ولا يتمكن من هذا إلا من درب نفسه وهيأها وأعدها للمواقف الجسام.
- أخي الحبيب وأنت على مشارف عام جديد احرص على أن تكون لك وقفة مع نفسك، تقيم فيها الماضي وتخطط فيها للحاضر، تقف على إيجابياتك فترتقي بها، وتتعرف على سلبياتك فتعالجها.. بحيث تكون ذكرى الهجرة انطلاقة للأمام في كل مسارات حياتك.
- إن ذكرى عاشوراء والهجرة تذكير لنا بنصر الله لأوليائه، ودحره سبحانه وهزيمته لأعدائه؛ وهو ما يجدد في النفس الأمل والثقة، ويجعلها تبذل الوسع في البحث عن هذه النصرة وأسبابها.
- هذه الذكريات العظيمة تحمل دليلا على أن طبيعة النصر ليست واحدة؛ بل هو متعدد الأنواع متنوع الطبائع؛ ففي وقت من الأوقات قد يكون مجرد النجاة بالنفس نصرا وفوزا، وفي وقت آخر قد يكون النصر أكثر وضوحا؛ فيكون هلاك الظالمين وإغراقهم والخلاص منهم.
وفي النهاية أخي الداعية هذه إشارات سريعة مستوحاة من ذكريات جليلة، وهي محفزات على إنعام النظر وإمعان الفكر في تراثنا الزاخر بالدروس والعبر التي تمثل زادا للداعية في طريقه إلى ربه.