مواقف عمر بن الخطاب
لعمر رضي الله عنه مواقف مشرفة حكيمة كثيرة جدًّا، منها على سبيل المثال لا الحصر ما يأتي:
الموقف الأول: موقفه في إظهار الإسلام وهجرته:
عندما أسلم عمر رضي الله عنه على يد النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يُعلم قريشاً بإسلامه، فسأل عن أنقلهم للحديث، لينقل خبر إسلامه إلى قريش، فقيل له: جميل بن معمر الجمحي، فذهب عمر رضي الله عنه إلى جميل، وقال له: أعلمت يا جميل أنّي قد أسلمت، ودخلت في دين محمد؟ فقام جميل بن معمر يجر رداءه مُسرعاً حتى قام على باب المسجد، ثم صرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش، ألا إن عمر بن الخطاب قد صبأ، فقال عمر وهو واقف خلفه: كذب، ولكني قد أسلمت وشهدت أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم، فثار عليه قريش من أنديتهم حول الكعبة، وقاتلهم وقاتلوه، واستمر القتال بينهم وبينه في هذا الموقف حتى قامت الشمس على رؤوسهم، وقد تعب عمر رضي الله عنه فقعد وقاموا على رأسه، وهو يقول: افعلوا ما بدا لكم، فأحلف بالله أن لو قد كنا ثلاثمائة رجل لتركناها لكم، أو لتركتموها لنا، وبينما هم على ذلك إذ أقبل شيخ من قريش عليه حلّة حبرة، وقميص مُوشّح، حتى وقف عليهم، فقال: ما شأنكم؟ قالوا: صبأ عمر، فقال: فمه، رجل اختار لنفسه أمراً فماذا تريدون؟ أترون بني عديّ بن كعب يسلمون لكم صاحبهم هكذا؟ خلُّوا عن الرجل! قال عبد الله بن عمر: فو الله لكأنما كانوا ثوباً كشط عنه، قال: فقلت لأبي بعد أن هاجر إلى المدينة: يا أبت من الرجل الذي زجر القوم عنك بمكة يوم أسلمت وهم يقاتلونك، -جزاه الله خيراً؟ – قال: يا بُنيَّ ذلك العاص بن وائل – لا جزاه الله خيراً –[1].
وبإسلام عمر وإظهاره إسلامه رضي الله عنه أعز الله به الإسلام، وفرّق به بين الحق والباطل، فسُمِّي الفاروق رضي الله عنه وأظهر الصحابة صلاتهم حول الكعبة، وقريش ينظرون إليهم[2].
قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (مازلنا أعزّة منذ أسلم عمر)[3].
وقال رضي الله عنه أيضاً: (كان إسلام عمر فتحاً، وهجرته نصراً، وإمارته رحمةً، والله ما استطعنا أن نُصلّي حول البيت ظاهرين حتى أسلم عمر، فلما أسلم عمر قاتلهم حتى تركونا نصلي)[4].
وقد كان عمر رضي الله عنه يتعرّض لرؤوس الكفر، ويعلن أمامهم إسلامه، بل يذهب إلى بيوتهم، ويطرق أبوابهم، ليخبرهم بأنه قد أسلم، لعلّهم يقومون بشيء ضدّه فيُصيبه ما يُصيب إخوانه من المسلمين، ويستطيع في الوقت نفسه أن ينتقم من تلك الرؤوس، ولم يُرد عمر أن يكون هو في نعمة وعافية وراحة، والمسلمون في إيذاء وتعذيب، فعندما أعلن إسلامه، وبدأت قريش تقاتله وثب على عتبة بن ربيعة فبرك عليه، وأدخل إصبعه في عينه، فجعل عتبة يصيح، فتنحى الناس عن عمر، وقام عمر، فجعل أحد لا يدنو منه إلا أخذ شريف من دنا منه، حتى تراجع الناس عنه5].
وعندما اشتد أذى المشركين على المسلمين، وأذن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهجرة من مكة إلى المدينة، وابتدأت وفود المسلمين متجهة إلى المدينة وكلها مختفية في هجرتها وانتقالها، إلا هجرة عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقد رُوي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: ما علمت أن أحداً من المهاجرين هاجر إلا مختفياً، إلا عمر بن الخطاب، فإنه لما هم بالهجرة تقلد سيفه، وتنكب قوسه، وانتضى في يده أسهماً وأتى الكعبة، وأشراف قريش بفنائها، فطاف سبعاً متمكناً، ثم أتى المقام فصلى ركعتين، ثم أتى حلقهم، ثم وقف على الحلق واحدة واحدة، فقال: شاهت الوجوه، من أراد أن تَثْكَله أمه وييتم ولده، وترمل زوجته، فليلقني خلف هذا الوادي، فما تبعه منهم من أحد[6].
الموقف الثاني: موقفه الحكيم في تثبيته الناس على بيعة أبي بكر رضي الله عنه
عقب وفاة النبي صلى الله عليه وسلم اجتمعت الأنصار إلى سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة، فقالوا: منا أمير ومنكم أمير، فذهب إليهم أبو بكر وعمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح، فذهب عمر يتكلم، فأسكته أبو بكر، وكان عمر يقول: والله ما أردت بذلك إلا أني قد هيأت كلاماً قد أعجبني، خشيت أن لا يبلغه أبو بكر، ثم تكلم أبو بكر، فتكلم أبلغ الناس، فقال في كلامه: نحن الأمراء وأنتم الوزراء، فقال حباب بن المنذر: لا والله لا نفعل، منا أمير ومنكم أمير، فقال أبو بكر: لا، ولكنا الأمراء، وأنتم الوزراء، هم أوسط العرب داراً، وأعربهم أحساباً، فبايعوا عمر، أو أبا عبيدة، فقال عمر: بل نبايعك أنت، فأنت سيدنا وخيرنا، وأحبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ عمر بيده فبايعه وبايعه الناس[7].
فرضي الله عن عمر وأرضاه، فإنه عندما ارتفعت الأصوات في السقيفة وكثر اللَّغَطُ، وخشي عمر الاختلاف، ومن أخطر الأمور التي خشيها عمر أن يُبْدأ بالبيعة لأحد الأنصار، فتحدث الفتنة العظيمة؛ لأنه ليس من اليسير أن يبايع أحد بعد البدء بالبيعة لأحد الأنصار، فأسرع عمر رضي الله عنه إخماداً للفتنة، فقال لأبي بكر: ابسط يدك، فبسط يده فبايعه، وبايعه المهاجرون، ثم الأنصار[8].
وعندما كان يوم الثلاثاء جلس أبو بكر على المنبر، فقام عمر فتكلم قبل أبي بكر، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: أيها الناس، إني كنت قلت لكم بالأمس مقالة ما كانت، وما وجدتها في كتاب الله، ولا كانت عهداً عهده إليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكني قد كنت أرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيدبر أمرنا، يقول: يكون آخرنا، وإن الله قد أبقى فيكم كتابه الذي به هدى الله رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن اعتصمتم به هداكم الله لما كان هداه له، وإن الله قد جمع أمركم على خيركم صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثاني اثنين إذ هما في الغار، فقوموا فبايعوه، فبايع الناس أبا بكر بيعته العامة بعد بيعة السقيفة[9].
فكان عمر رضي الله عنه يذود ويقوي، ويشجع الناس على بيعة أبي بكر حتى جمعهم الله عليه، وأنقذهم من الاختلاف والفرقة والفتنة.
فهذا الموقف الذي وقفه عمر مع الناس من أجل جمعهم على إمامة أبي بكر، موقف عظيم من أعظم مواقف الحكمة، التي ينبغي أن تسجل بماء الذهب من مواقف عمر الحكيمة.
الموقف الثالث: موقفه الحكيم في إصلاح الأهل قبل الناس
كان عمر رضي الله عنه مع أهله قوياً، فكان إذا أراد أن يأمر المسلمين بشيء أو ينهاهم عن شيء مما فيه صلاحهم ونجاحهم وفلاحهم، بدأ بأهله، وتقدم إليهم بالوعظ لهم، والوعيد على خلافهم أمره، فعن سالم بن عبد الله بن عمر قال: (كان عمر إذا صعد المنبر فنهى الناس عن شيء جمع أهله، فقال: إني نهيت الناس عن كذا وكذا، وإن الناس ينظرون إليكم نظر الطير إلى اللحم، وأقسم بالله لا أجد أحداً منكم فعله إلا أضعفت عليه العقوبة)[10].
وهذا من أعظم مواقف الحكمة؛ لأن الناس ينظرون إلى الداعية ومدى تطبيقه العملي والقولي لما يدعو إليه، كما ينظرون إلى تطبيقه ذلك على أهله ومن تحت يده.
الموقف الرابع: موقفه الحكيم في دعوته بتواضعه لله تعالى
كان عمر – رضي الله عنه وأرضاه – مع قوته في دين الله، وشجاعته، وشدته على أعداء الله، وهيبة الناس له، وفرار الشيطان منه، كان مع ذلك كله متواضعاً، وقَّافاً عند حدود الله، وقد كان يقول: أحبّ الناس إليّ من أهدى إليّ عيوبي[11]. ومن ذلك ما يلي:
( أ ) عندما مر بالجابية على طريق إيلياء وجلس عندهم، قيل له: أنت ملك العرب، وهذه بلاد لا تصلح بها الإبل، فلو لبست شيئاً غير هذا – يعنون قميصه المرقع – وركبت برذوناً [12]، لكان ذلك أعظم في أعين الروم، فقال: نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، فلا نطلب غير الله بديلاً.
ثم سار عمر من الجابية إلى بيت المقدس، وقد تعبت دابته، فأتوه ببرذون فجعل يهملج به، فقال: لمن معه: احبسوا، احبسوا، فنزل عنه، وضرب وجهه، وقال: لا علّم الله من علّمك، هذا من الخيلاء، ما كنت أظن الناس يركبون الشياطين، هاتوا جملي، ثم نزل وركب الجمل، ثم لم يركب برذوناً قبله ولا بعده[13].
(ب) ولما قدم عمر بن الخطاب رضي الله عنه الشام عرضت له مخاضة، فنزل عن بعيره، ونزع خُفَّيه، وأمسكهما بيده، وخاض الماء ومعه بعيره، فقال له أبو عبيدة: قد صنعت اليوم صنعاً عظيماً عند أهل الأرض، صنعت كذا وكذا، فصك عمر في صدره، وقال: أوَّه، لو غيرك يقولها يا أبا عبيدة، إنكم كنتم أذَّل الناس، وأحقر الناس، وأقلّ الناس، فأعزكم الله بالإسلام، فمهما تطلبوا العزة بغيره يُذلكم الله[14].
وله مواقف حكيمة في دعوته إلى الله إلى الله – تعالى – لا يتسع المقام لذكرها[15].
وهذه المواقف العظيمة يبين فيها للناس بقوله وفعله أن العزة والرفعة والتمكين لا تأتي عن طريق الكبر، والغطرسة، والإعجاب بالنفس أو الجاه أو السلطان، وإنما يأتي ذلك كله لمن تمسك بالإسلام، ولهذا قال لأبي عبيدة في الخبر السابق: (إنكم كنتم أذلّ الناس، وأحقرَ الناس، وأقلّ الناس، فأعزكم الله بالإسلام، فمهما تطلبوا العزة من غير الله يذلّكم الله).
رضي الله عن الفاروق وأرضاه، وجزاه عن أمة محمد خير الجزاء، فقد قام بالأعمال العظيمة، وسلك مسلك الحكمة التي من أُوتيها فقد أُوتي خيراً كثيراً، ونفَّذ وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم في المشركين، من: يهود، ونصارى، ومجوس، وغيرهم من المشركين، حيث قال صلى الله عليه وسلم قُبيل موته: (أخرجوا المشركين من جزيرة العرب)[16].
فطهَّر رضي الله عنه جزيرة العرب من المشركين، ولم يترك أحداً منهم فيها، طبقاً لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
([1]) انظر: سيرة ابن هشام، 1/370، والبداية والنهاية لابن كثير، وقال: هذا إسناد جيد قوي، 3/82، وانظر بعض القصة في البخاري مع الفتح، 7/177، وانظر: قصة إسلام عمر في البداية والنهاية 3/79- 81، وسيرة ابن هشام، 1/364-371، وتاريخ الخلفاء للسيوطي، 109-115، وفتح الباري، 7/48، ومناقب عمر لابن الجوزي، ص12-18، والتاريخ الإسلامي لمحمود شاكر، 3/121-125.
([2]) انظر: مناقب عمر بن الخطاب لابن الجوزي، ص18-19، وتاريخ الخلفاء للسيوطي، ص113-115، والتاريخ الإسلامي لمحمود شاكر، 3/124، وفتح الباري شرح صحيح البخاري، 7/44.
([3]) البخاري مع الفتح، في كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب عمر، 7/41، رقم (3684)، ومناقب الأنصار، 7/177، (رقم 3836).
([4]) ذكره ابن حجر في فتح الباري، 7/48، وعزاه إلى الطبراني وابن أبي شيبة، وذكره السيوطي في تاريخ الخلفاء، ص115، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: “رجاله رجال الصحيح إلا أن القاسم لم يدرك جده ابن مسعود”، 9/62، وانظر: البداية والنهاية، 3/79.
([5]) انظر: التاريخ الإسلامي لمحمود شاكر، 3/125، وأعلام المسلمين لخالد البيطار، 2/22، 23.
([6]) انظر: تاريخ الخلفاء للإمام السيوطي، ص115، والتاريخ الإسلامي لمحمود شاكر، 3/125، وأعلام المسلمين، 2/25.
([7]) البخاري مع الفتح، كتاب فضائل الصحابة، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم لو كنت متخذاً خليلاً، 7/20، (رقم 3668).
([8]) انظر: فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 7/32، وسيرة ابن هشام، 4/339، والبداية والنهاية، 5/246، 6/301، وحياة الصحابة، 2/11، وتاريخ الخلفاء، ص51.
([9]) انظر: سيرة ابن هشام، 4/340، والبداية والنهاية، 5/248، 6/301، والتاريخ الإسلامي لمحمود شاكر، 3/57.
([10]) انظر: تاريخ الأمم والملوك للإمام الطبري، 2/68، والكامل في التاريخ لابن الأثير، 3/31، والتاريخ الإسلامي لمحمود شاكر، 3/404، وأعلام المسلمين للبيطار، 2/54.
([11]) انظر: مناقب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب لابن الجوزي، ص154، وأعلام المسلمين لخالد البيطار، ص59.
([12]) البرذون: الدابة، ويطلق على غير العربي من الخيل والبغال. انظر: القاموس المحيط، باب النون، فصل الباء، ص1522، والمعجم الوسيط، مادة: برذن، 1/48، ومختار الصحاح، مادة (برذن)، ص18.
([13]) انظر: البداية والنهاية، 7/57، 7/60، 7/135، ومناقب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب لابن الجوزي، ص150، 151.
([14]) انظر: البداية والنهاية لابن كثير، 7/60، وأعلام المسلمين لخالد البيطار، ص59، ومناقب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب لابن الجوزي، ص150.
([15]) ومن حصره على التواضع أنه كان يدرب نفسه عليه، ولذلك إذا أنكر نفسه أدبها وجازاها وخاطبها يخوفها بالله، فعن أنس t قال: كنت مع عمر، فدخل حائطاً لحاجته فسمعته يقول: – وبيني وبينه جدار الحائط –: “عمر بن الخطاب أمير المؤمنين، بخ بخ، والله لتتقين الله يا ابن الخطاب، أو ليعذبنك”.
وقيل: إنه حمل قربة على عاتقه فقيل له في ذلك، فقال: إن نفسي أعجبتني فأردت أن أذلها. وكان يسمع الآية من القرآن فيغشى عليه فيحمل صريعاً إلى منزله، فيعاد أياماً ليس به مرض إلا الخوف من الله U، انظر: البداية والنهاية، 7/135.
وانظر مواقف له أخرى في: تاريخ الطبري، 2/567، 568، والكامل في التاريخ لابن الأثير، 3/30، ومناقب عمر بن الخطاب لابن الجوزي، ص69، والبداية والنهاية، 3/135، وحياة الصحابة للعلامة الكاندهلوي، 2/97.
([16]) البخاري مع الفتح، كتاب الجزية والموادعة، باب إخراج اليهود من جزيرة العرب، 6/271، (رقم 3168)، ومسلم، كتاب الوصية، باب الوصية لمن ليس له شيء يوصي فيه (رقم 1637).