خميس النقيب
كان يتأمَّل في الكون من حوله، انظر كيف يُفكِّر بعقله الراجح ويتدبَّر بقلبه السليم؛ ﴿فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا
أُحِبُّ الْآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام: 76 – 79]، ولما حاجَّه قومه لم يخف وتبرَّأ منهم، ووجّه وجهه إلى ربه فاستَحق الأمن؛ ﴿وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ * وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [الأنعام: 80، 81].
إنه رمز الحج وركنُ التوحيد، صاحب النداء ومؤسِّس الفداء، خليل الرحمن، وعصيُّ النِّيران، ومُكرم الضيفان، إنه أمة بأَسرها، إنه إبراهيم – عليه السلام!
تنزلت فيه آيات: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا﴾ [مريم: 41]، وعاش مُتنقِّلاً بين التأمُّلات، فعندما تُصادق شخصًا وتُحبه -كما يقال- تقول فيه شعرًا، لكن من يقال فيه قرآن -ولله المثل الأعلى- فالأمر يختلف، كيف؟! ولجَلال الحبِّ هذه مُبادرة من الخالق لاتخاذ المخلوق خليلاً؛ ﴿وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا﴾ [النساء: 125]، وهنا ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ [البقرة: 124]، قُدِّم المفعول وهو إبراهيم على الفاعل وهو الله للمنزلة الرفيعة والقيمة العالية، والمكانة المرموقة لخَليل الله عند ربه!
كان جديرًا بتوفيق ربه أن يدحض حجَّة النُّمروذِ، بل ويبهته ويفحمه؛ ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [البقرة: 258].
ولذلك لما ضاق المُشركون به ذرعًا، جمَعوا له حطبًا يُريدون إحراقه، فكانت المرأة تُقدِّم نذرًا لأجمعنَّ حطبًا كذا وكذا، وأُضرِمت النيران، ووضع فيها إبراهيم – عليه السلام – بالمنجنيق من عل، فلم تَحرِق النارُ إلا وثاقه؛ ﴿قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾[الأنبياء: 69] فكانت عليه كذلك.
ومن باب “بِرُّوا آباءكم تبرَّكم أبناؤكم” يُكرِّر “يا أبت” في نصيحته حتى لا يَهلِك بكُفرِه وهو يدعو أقرب الناس إليه أولاً، والده: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا﴾ [مريم: 41 – 45] ماذا كان موقف والده؟ ﴿قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا * قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا * وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا﴾ [مريم: 46 – 48] ماذا كانت النتيجة؟ رُزق إسحقَ ويعقوبَ وكلاهما من الأنبياء؛ ﴿فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا﴾ [مريم: 49]، ورُزق بإسماعيل يَحفظ له هذه الأخلاق حتى في وقت الشدة؛ ﴿فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾ [الصافات: 102]، كيف لا وقد جاء ربه بقلب سليم؛ ﴿إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ [الصافات: 84]، وكان عند ربه أوّاه حليم؛ ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ﴾ [التوبة: 114]، وكذلك أواه منيب؛ ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ﴾ [هود: 75].
تجده هنا يدعو بالأمن للبلد (مكة) وأهلها أن يرزقهم الله بالثمرات، كل المؤمنين، فردَّ عليه الله قال: ومن كفر كذلك؛ ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ [البقرة: 126]، أما في الإمامة والقيادة فالأمر يختلف؛ لذلك يتمُّ إبعاد الظالمين؛ ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ [البقرة: 124]؛ لأن الأمر لا يَستقيم معهم؛ لأنهم بظُلمهم يُخربون البلاد ويُدمِّرون العباد.
ثم نأتي إلي الأسرة الكريمة، سارة -عليها السلام- لم تُنجِب، فزوَّجتْه هاجرَ -عليها السلام- فلمَّا بدا عليها آثار الحَمل، غارت سارة فهاجَرت هاجرُ مع الخليل، حتى ولدَت إسماعيل، ثم انتقلَت معه إلى صحراء جرداء، لا زرعَ فيها ولا ماء، وهناك ترَكها لأمر الله؛ آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت إذًا لن يُضيَّعنا! الرجل والمرأة يُعظِّمان أمر الله، ويُوقِنان فيما عند الله، فذهَب إبراهيمُ وبقيَت هاجرُ مع رَضيعها إسماعيل حتى نفَد الماءُ، فسعَت بين الصَّفا والمروة سبعة أشواط تَستَنزِل رزق ربِّها متوكلةً عليه، آخذةً بأسبابه، طارقةً أبوابه، حتى نبع ماء زمزم من تحت قدم إسماعيل، فشرب وشربَت، وشرب إبراهيم وشربت الأمة إلي يوم الدين.
ثم رفعا قواعد البيت؛ ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ﴾ [البقرة: 127]، وأراد الله أن تتَّجه القلوب والعقولُ والأوجه في كل الدنيا نحو هذا المكان؛ ﴿رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ﴾ [إبراهيم: 37]، ومِن ثَم تشييد المكان وتزيين الزمان، بيوت أُسِّست على طاعة الله؛ ﴿أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [التوبة: 109]، ورجال صنعوا على تقوى الله؛ ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا﴾ [الأحزاب: 23] الزوجة والابن والزوج.
إنَّ إبراهيم -عليه السلام- وهو قمَّة بل أمة؛ ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً﴾ [النحل: 120]. يرجو الأولاد؛ لا للعِزوة ولا للمُتعة؛ وإنما ليَسجدوا لله ويركعوا؛ ﴿رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ [إبراهيم: 37] وهو قُدوتُهم؛ ﴿رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ﴾ [إبراهيم: 40]؛ لذلك جاء إسماعيل على نفس درب أبيه؛ ﴿وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا﴾ [مريم: 55].
فإذا رُزقت الأولاد لا تَجبُن بهم عن طاعة، ولا تَقعُد بهم عن عبادة، ولا تدفَع بهم إلى معصية، قِمَم الخير كذلك يُذكرون بأعمالهم؛ ﴿وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ﴾ [ص: 45] كل الناس لهم أيدٍ ولهم أبصار، أما في هذا الموقف فإن هؤلاء القِمم لدَيهم ذكاء حادٌّ، وباع طويل، وبصيرة ثاقبة، قدرات هائلة في زرع الخير للناس، وتقديم الهداية للخلق، ومن الخير ومن الهداية عندما يأتي موسم الحج، تَستشعِر روحانياته، وتعيش لحظاته، وتحيا حركاته وسكناته، إنَّ اللهَ يُشرِّفهم بالانتساب إليه أولاً ﴿عِبَادَنَا﴾، وثانيًا بذِكرهم أنهم ﴿أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ﴾، ثمَّ الذين مِن بعدهم يَربِطون الأرض بالسماء ويَصِلون الخلق بالخالق، الأنبياء والمُرسلين، والصحابة والتابعين، والصالحين المصلحين إلى يوم الدين، إنها رسائل ذات معنى، نعم إن إبراهيم -عليه السلام- بذلك ابتُلي بكلمات فأتمَّهنَّ، ووجِّه له اختبار فنجَح بامتياز، ووفى ما أمر به ربه؛ ﴿وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى﴾ [النجم: 37].
رسائل مَمزوجة بالدلائل، وشعائر مَقرونة بالمَشاعر، شَعائر يجب أن تعظم؛ ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ [الحج: 32]، وحرمات يجب أن تكرم؛ ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ﴾ [الحج: 30].
وصلِّ اللهم على سيدنا محمد وعلى أهله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.
—–
المصدر: موقع آفاق الشريعة.