الانفصام الدعوي (2 /5).. مع النفس

دعوة قرآنية إلى تنمية الحس الجمالي

د.محمد سعيد

القرآن

الخطاب الدعوي بحاجة لجماليات القرآن

البحث والنظر في قيم الجمال من البحوث العميقة التي اهتم بها علم الأخلاق، باعتباره علمًا يقوِّم الملكات الإنسانية المختلفة، ويسدد نظرة الإنسان في اتجاه إيجابي وهو يحيى حياته الفردية والجماعية، ويتقلب في آلاء هذه البسيطة.

والإنسان مفطور على حب تذوق القيم الجمالية في كل فعل يفعله أو يُفعل له، وفي كل مُيسَّر يُسِّر له، لذلك تجده بالفطرة يُقبل إقبال الفرِح الطرِب على كل ما يتلقاه ويواجهه، إذا توفرت فيه شروط الصحة والحق، وغشيته ولفته قوالب الحسن والجمال، وقل مثل ذلك في باقي النعم التي منَّ بها المنعم على خلقه، أطعمةً و دوابَّ و جناتِ الأزهار و تضاريسَ في غاية الحبك والإحكام، وآفاقَ السموات وزينتها.. وما لا عد له من قبيل آيات الجمال المقروءة والمنظورة.

وعلى هذا النسق يبحث الأستاذ الدكتور سعيد بن أحمد بوعصاب الطنجي هذا الموضوع ويحرر فيه كتابًا جديدًا- هو الثاني في حلقة تآليفه- وسمّاه بعنوان «القرآن الكريم والدعوة إلى الحس الجمالي» نشرته مطبعة ليتوغر اف بطنجة ط1 /2012 في 208 صفحات من الحجم المتوسط.

استُهِل الكتابُ بمقدمتين، الأولى للدكتور محمد الشربجي الشامي، أستاذ الدراسات القرآنية في كليتي الشريعة والآداب بجامعة دمشق، فرج الله كربها، ختمها بقوله: «وكان أسلوبه سلسًا، ولغته سليمة، وألفاظه جميلة، وعبارته جزلة، وسجعه جميل دون تكلف أو تصنع، يأسرك عند قراءته، فلا تكاد تترك الكتاب إلا وقد أتيت على آخره»، وهو ما نستشف منه طبيعة الشكل والقالب الفني الذي حوى المضامين التي عالجها المؤلف في كتابه، إذ لا يستساغ أن تقارب موضوعًا دقيقًا يتتبع مواقع الجمال في الآفاق بلغة بعيدة عن نَفَسِ الذوق الرفيع والإحساس المرهف، لذلك تجدني أوافق د.الشربجي في هذا التعليق الجميل الذي أبداه تجاه التركيب اللغوي والمعجمي والأسلوبي للكتاب.

والمقدمة الثانية لصاحب الكتاب، والذي أبدى فيها شغفه بموضوع الجمال وما حبَّره قلم المرحوم فريد الأنصاري في كتابه «جمالية الدين»، إلا أن استهواءه لهذا التأليف وجده «قد وقف عند معان محدودة، وقضايا معدودة، وددت لو أن شيخنا الحبيب تناول قلمه غيرها، فضمها إلى أخواتها».. لذلك عقد الأستاذ سعيد بوعصاب العزم على خوض غمار بحث وصف موضوعه بـ «جد خطير»؛ لأنه وُظفت له منابرُ ووسائل جد معتبرة «لتلعب بالأفهام، وتزخرف الكلام فتضل الأنام، حيث حصرت الحديث فيه في جانب الأجسام، وغفلت ما للروح من سمو المقام، فكان لزامًا على كل من له بالفن إلمام، أن يعمد لإماطة اللثام..».

قيم كونية

ونظرا لما لحق الفكر والحضارة الإسلاميين من سوء فهم وغرابة تأويل، من قِبل بعض المعاصرين الذين أدركوا من الدين طقوسًا ورسومًا جافة وتقاليدَ؛ بدل شرائعَ وأركان وقيم كونية خالدة، فإن المقام- كما يرى صاحب الكتاب- حري بأهل العلم وجمالية القول أن يبرزوا «تلك الأخلاق الجمالية الرفيعة، التي كانت تمثل زمن حضارة الإسلام الوجه الحقيقي للمسلمين، إذ هي تبرز الذوق الرفيع، والسلوك النبيل، والرؤية الجميلة، والنظرة الراقية، والحركة البانية، كما أن الخطاب الدعوي بحاجة ماسة اليوم إلى إبراز مكامن الحسن والجمال في العرض والأسلوب، والمعنى والموضوع.. ».

يمكن تقريب متن الكتاب للسادة القراء عبر تقسيم بنيته إلى محورين، المحور الأول: نظري خصه للحقل الدلالي والمفهومي لكلمة «الجمال»، ولسمات ومعايير الجمال في النص القرآني. فالسمات لخصها المؤلف في:

  • الدقة والإحكام.
  • التناسق والنظام.
  • الإبداع والابتكار.
  • التبديل والاستمرارية.
  • التنوع والإكثار.
  • السهولة واليسر.

أما خصائص الجمال التي ضبط القرآن موازينها وحدودها فاستوعبتها خصيصة «الربانية» التي تربط الانسان بربه، وتربط مظاهر الجمال وسحرها بفعل صانع الجمال وموجده، على نحو من الروعة واللذة والبهاء.. وخصيصة «السمو» والذي يرمز به إلى العفة اللفظية والفعلية في التعاطي مع مواقع الجمال في مختلف ضروب الحياة.. وأخيرا خصيصة «الشمول» الذي أثار فيه الخلط- الذي وقع فيه البعض فجعلوا «الفن» و«الجمال» واحدًا- «والواقع أن الفن هو ميدان واحد من ميادين الجمال المتنوعة والمتعددة، ذلك أن الجمال في الذوق القرآني يربي في المسلم المتأمِّل تلمسَ قيم الجمال في منحاها الشمولي والتركيبي، بدل الفعل التجزيئي والتصنيفي الذي سقط فيه الكثير. فأية قيمة لجمال الصورة- يقول الأستاذ سعيد بوعصاب- التي تسحر الألباب إذا كان صاحبها فجَّ السلوك، سيئ الأخلاق، ذابل الروح، قد جمع في داخله كل معاني الشر التي يستعاذ منها في كل الأحوال..».

ورصد المحور النظري الأخير «مقاصد التربية الجمالية في القرآن» التي تهدف إلى تنمية الجانب الإيماني، وتكوين الشخصية السوية المتكاملة، وتنمية ملكة الإبداع والإتقان، والتحلي بالذوق العالي.

وانتقل المؤلف في حيز عريض من كتابه إلى الجانب التطبيقي، والذي وسمه بـ «مع القرآن الكريم في تنمية الحس الجمالي»، حيث أبان فيه قدرة وبراعة في استشفاف واستقصاء ملامح الجمال التي نوه إليها الوحي، ولفت انتباه قارئيه ومستمعيه (الوحي) عبر العصور والقرون إلى أهمية إعمال النظر في الآيات المنظورة، وإحكام الصنعة والخلق والجمال فيها. ولأن الباري تعالى وضع الكون وصنعه لمرام وغايات.. فمن الطبيعي والمنطقي أن تُستثمر آيات الكون في آيات القرآن لتثبيت عقائد الناس وتوحيد نظرتهم تجاه موجِد الوجود وتوحيده، ومن ثمة اتباع هديه وشرائعه، وهكذا توقف المؤلف مع الآيات القرآنية التي ترصد جمالية السماء، والأرض، والبحر، والإنسان، والصورة، والحيوان.

وفي الشعائر التعبدية تتبع المعالم الجمالية الشفافة والعميقة في كل من شعيرة الصلاة، والصدقة، والصيام، والحج. ثم انتقل إلى تقصي قيم الجمال في الأحوال الشخصية، وقسمه إلى قسمين:

1- «في جانب فقه الأسرة» التي استوحى درر جمالياتها من الصداق، والزواج، والمعاشرة الزوجية، والأبناء والحفدة، ومعالجة الشقاق، والطلاق، والميراث، والعِدَّة.

2- «في جانب الآداب الاجتماعية»، واكتفى فيها بقيمتين كبيرتين في الحياة الاجتماعية: جمالية الاستئذان وجمالية الضيافة.

وفي المعاملات يسبر غور الجمال والقيم العليا في: المعاملات المالية، والتجارة، والدَّيْن، الحدود والكفَّارات، والعلاقات الدولية، والسلام، والجهاد.

فن القول

وفي آخر قسم تناول المؤلف جمالية فن القول من خلال مهارات التواصل وعنونه بـ«القرآن الكريم ومعالم التربية الجمالية في الأخلاق»، وتتبع فيه جماليات التأدب في مخاطبة الله تعالى، وفي مخاطبة الرسول  ” صلى الله عليه وسلم” ، وفي مخاطبة الوالدين، وفي مخاطبة الناس عامة. وختم بجمالية الأفعال: الذوق في طريقة المشي، والإقبال على المتكلم بالوجه، والعفو عند المقدرة، والشفاعة الحسنة، وبذل المعروف.

ثم نبه قبل الختم إلى جمالية الخطاب الدعوي القائم على «الحكمة والموعظة الحسنة» و«المعرفة بمضمون الخطاب ومآل الخطاب وظروف الخطاب زماناً ومكاناً». وفي كل ذلك كان المؤلف يغذي تحريره بالاستشهاد والنقل عن الشاطبي والطبري ومحمد الطاهر بن عاشور وسيد قطب ومحمد المكي الناصري، ومسفر القحطاني وفريد الأنصاري ومحمد عمارة وفهمي هويدي، وغيرهم كثر، مما أثمر حصيلة مرجعية مهمة تفيد الباحث في الجماليات وفق المنظور الإسلامي.

لقد وفق المؤلف في اختيار الموضوع، الذي نستشف منه أن صاحبه لاحظ حدود التعامل مع النص القرآني الذي لا يفارق حدَّ القراءةِ الظاهرية والتفسيرِ البسيط والمعاملات المناقضة لجوهر نص الوحي وقيمه العليا، لذلك نقول- وبموضوعية- إن التأليف ذو راهنية ملحاحة، ولفت صريح- وبلغة جذابة- لأهمية اهتمام المسلمين بجمالية التدين في كل مناحي الحياة.

______

* المصدر: الوعي الشبابي.

مواضيع ذات صلة