الانفصام الدعوي (2 /5).. مع النفس

قراء في مخطوطة “مسلية الغريب بكل أمر عجيب”

الشيخ خالد رزق تقي الدين
مخطوطة الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله البغدادي الدمشقي ” مسلية الغريب بكل أمر عجيب “، تأصيل تاريخي ووصف متميز لعالم جليل وداعية من الطراز الأول، والشيخ البغدادي عالم أديب ذو مواهب متعددة، كتب الشعر والأدب، وأتقن العلوم المختلفة إضافة للعلوم الشرعية، وتمكن من اللغتين العربية والتركية، وكان محبا للسفر والتجوال، ولقد سافر إلى الدولة العلية العثمانية في الأستانة في عهد السلطان عبد العزيز الأول، وقد بدأت الرحلة في أوائل جمادى الأولى سنة 1282 هجرية، وحينما وصلت السفينتان للمحيط الأطلسى هبت عاصفة قوية وحملتهما إلى بلاد بعيدة تبين بعد ذلك أنها مدينة “ريو دي جانيرو”.

هذه المخطوطة تعد -بلا شك- عمدة للدارسين والمتابعين لتاريخ المسلمين في البرازيل وأمريكا اللاتينية، لأن من كتبها عالم جليل وأديب مخضرم، استطاع أن يصف كل ما رأى، وأن يضع تصوراته لإنقاذ الجالية المسلمة في ذلك الوقت.

لقد أضافت هذه المخطوطة بعدا آخر على تاريخ الإسلام والمسلمين في البرازيل، حيث كان الاعتقاد السائد لدى الدارسين لتاريخ الإسلام والمسلمين في البرازيل أن قصة المسلمين الأفارقة الأوائل الذين جلبهم البرتغاليون للبرازيل للعمل على استصلاح أراضيها، تنتهي بانتهاء ثورتهم عام 1835م في ولاية باهيا، والتي كانت نتيجتها الفشل في تحقيق أهدافها لتحرير العبيد وإقامة مملكة إسلامية.

وحين وصلتنا هذه المخطوطة استكملت حلقة مفقودة في تاريخ المسلمين في البرازيل، وجاءت لتؤكد أن الإسلام استمر متواجدا وبفاعلية داخل دولة البرازيل وإن كان أتباعه يمارسونه سرا لسنين طويلة بعد فشل هذه الثورة، ولقد حاول المسلمون خلال تلك الفترة أن يوحدوا صفوفهم وكان لهم تواصل منظم بين تجمعاتهم المنتشرة في دولة البرازيل الكبيرة، ومارسوا شعائر دينهم التي شابها الكثير من التحريف نتيجة قتل مشايخهم واندساس بعض اليهود بينهم والذين عملوا على تبديل أوليات الدين الإسلامي .

زيارة الشيخ عبد الرحمن البغدادي للبرازيل عام 1866م تعتبر أول زيارة لعالم عربي مسلم للمسلمين في دولة البرازيل، بل نستطيع القول أنها أول زيارة لعالم مسلم للأمريكتين، ولقد دون الشيخ خلالها ووصف بدقة أخلاقياتهم وحياتهم وممارساتهم وتفاعلاتهم المختلفة، وحاول من خلال برنامج تربوي إسلامي التغلب على معظم المصاعب والأمراض الأخلاقية التي أصابت عدد كبير من مسلمي البرازيل .

تكمن أهمية المخطوطة كذلك في وصف الشيخ البغدادي -رحمه الله- للأماكن التي زارها، وهو ما يسمى جغرافية المكان، وكذلك عادات الشعب البرازيلي وكنائسه، وأنواع الأطعمة والفواكه، ووصف البلدان التي مرت عليها السفينة أثناء عودتها .

الجهود العلمية لدراسة مخطوطة ” مسلية الغريب بكل أمر عجيب “

لقد ظهرت المخطوطة منذ فترة قصيرة وما زالت تحتاج للكثير من الجهود لدراستها من جوانبها المختلفة، وكذلك دراسة الحقبة التاريخية التي زامنت كتابة هذه المخطوطة سواء في البرازيل أو العالم الإسلامي وخصوصا إفريقيا الموطن الأم لمسلمي البرازيل.

 وسأحاول من خلال هذه الدراسة تتبع أهم الدراسات والكتابات التي تحدثت حول هذه المخطوطة:

أولا: ترجمة المخطوطة للغة العثمانية، وقد قام بهذا العمل ” شريف أفندي ” وقد حصلت على نسخة مصورة من الترجمة من مكتبة السليمانية في إسطنبول، وهي مسجلة تحت رقم 4979، وقد تمت هذه الترجمة عام 1288 هـ يعني 6 أعوام من تاريخ زيارة الشيخ عبد الرحمن البغدادي للبرازيل، وهذه الترجمة تضفي مصداقية على وجود المخطوطة والعناية والاهتمام الذي تم بها من قبل بعض العلماء في ذلك العصر.

ثانيا: كتاب “المسلمون الأوائل في البرازيل”، وهو كتاب صدر باللغة التركية، ولقد أعد الترجمة على شكل قصة الأستاذ أحمد أوزابل، وقامت بنشرها مكتبة Kitabevi 2006م في إسطنبول بتركيا.

ثالثا: كتاب “مسلية الغريب بكل أمر عجيب.. دراسة تحليلية عن رحلة الإمام البغدادي”، والكتاب دراسة تحليلية عن رحلة الإمام البغدادي، وقد قامت بنشره مكتبة أمريكا الجنوبية باللغات الثلاث (العربية والبرتغالية والإسبانية) عام 2007م، وقد تم إعداد الكتاب بناء على توصية اجتماع رؤساء الدول اللاتينية والعربية في إعلان الدوحة عام 2009م.

ولقد توسع الدكتور باولو فرح في تحليل الجانب الثقافي والوصفي في المخطوطة، وكان تحليله ضعيفا للجانب الديني والدعوي لفترة إقامة الشيخ البغدادي بين المسلمين، وقد أجاد الدكتور في تحليل الإساءات والتحريفات التي أدخلها المترجم اليهودي على الدين الإسلامي، وكان هذا اليهودي قد رافق الشيخ البغدادي مدة من الزمن قبل أن يكتشف أمره وكان يقوم بالتواصل بين الشيخ البغدادي ومسلمي البرازيل في المرحلة الأولى من إقامتة بين المسلمين .

خامسا: “مسلية الغريب.. رحلة إلى أميركا الجنوبية” لعبد الرحمن البغدادي، وقام بتحقيقها الجزائري عبد الناصر خلاف وقد حصلت على جائزة ابن بطوطة لأدب الرحلة لعام 2009م والذي يقيمه المركز العربي للأدب الجغرافي- ارتياد الآفاق، ولم أستطع الحصول حتى الآن على صورة من هذا البحث.

سادسا: الشيخ عبد الرحمن البغدادي في بلاد السامبا، وهو تحليل على ثلاثة أجزاء قمت بكتابته، تم نشره على أكثر من موقع على شبكة الإنترنت، ثم كان هذا الجهد الذي ضمنته هذا الكتاب، لأنها مخطوطة جديرة بالتأمل والدراسة من أكثر من زاوية وتحتاج لكثير من التحليل، خصوصا أن الشيخ البغدادي رحمه الله وصف وصفا دقيقا كل ما مر به وسمعه وشاهده خلال تلك الرحلة، وهي بلا شك مفتاح لدراسة أعمق لهذه الفترة التاريخية، وهذا سيساعد على إعادة صياغة تلك الفترة التي أهملت ولم توف حقها من الدراسات العمية.

سابعا: ندوة “مسلمو البرازيل قاوموا عمليات التنصير في القرن 19″، وهي عبارة عن ندوة ألقاها الدكتور مايكل جوميز أستاذ التاريخ والدراسات الإسلامية والشرق أوسطية بجامعة نيويورك، نظمتها كلية الدراسات الإسلامية بقطر في شهر مارس 2011م، وقد جاء في التقرير الذي تحدث عن ندوته “وعرض جوميز لمخطوط الرحالة عبدالرحمن البغدادى مسلية الغريب” والذى زار باهيا عام 1880  واجتمع مع المسلمين وتحدث معهم عن دينهم 1880، ورأَى  بعض الآثار الإسلاميَّة يعني ما زالت موجودةً في بعض المسلمين العبيد، الذين كانوا يقومون ببعْض الصَّلوات، وقال في مخطوطه: لمَّا نزلْنا على سواحل السنتس – مدينة ساحلية – فأرادوا أن يصلُّوا فلمَّا أقاموا الصَّلاة جاء بعض العبيد وأخذوا ينظرون إليْهم، في اليوم الثاني ظنُّوا أنَّهم جاءوا ليستهزئوا بهم ويضحكوا عليهم، في اليوم الثَّاني هؤلاء العبيد جاؤوا وشاركوا في الصلاة، وطلبوا منه أن يبقوا عامين معهم حتَّى يعلِّمَهم، فبقِي هذا الرَّجُل حوالي سنتَين ثمَّ كتب هذا الكتاب، والكتاب الآن بعد التَّبادُل الآن بين دوْلة البرازيل وبعض الدُّول العربيَّة أوْصَوا بأن يُطْبَع، وأظنُّ أنَّه طُبع في مدينة الجزائر، وموجود قيْد التناوُل الآن، هذا التَّواجد القديم”.

أرجو أن أكون قد بينت من خلال هذا المقدمة الضوء على عمل أدبي رائع لأحد علماء المسلمين الذين وهبوا أنفسهم للدعوة إلى الله وتحملوا الكثير من المصاعب خلال فترة زمنية كان البرتغاليون والكنيسة يعدون على المسلمين أنفاسهم، واستطاع هذا العالم الجليل خلال فترة وجوده أن يصصح الكثير من المفاهيم المغلوطة حول دين الإسلام، وأن يبعث روح العزة بين أبناء المسلمين مما دفعهم لهجر الكثير من العادات والمعاصي والعودة لتعلم العقيدة الإسلامية الصحيحة وشعائر الدين الإسلامي الحنيف، وقد أعطانا الشيخ البغدادي نموذجا عن تحرك الداعية وسط الأقلية المسلمة، من خلال تبنيه لمذهب وسطي، واعتماده على فتاوى تراعي ظروف الحال، نسأل الله أن يتغمده بكامل رحماته وأن يحفظ المسلمين في كل زمان ومكان.

_____

المصدر: المجلس الأعلى للأئمة والشؤون الإسلامية في البرازيل.

 

مواضيع ذات صلة